الصفحة الرئيسية
 /  
ال آباو آقو
 /  
رجوع

ال آباو آقو


    ذكرت في المقالة السابقة أن ( بورخيس ) دعا في مقدمة كتابه (كتاب المخلوقات الوهمية ) إلى أن يقرأ القارئ مجموع هذه القصص والأساطير المتراصة حول مخلوقات متفرقة قراءة تشبه اللعب بالأشكال المتغيرة في لعبة (المشكال).

          وبورخيس في دعوته المشار إليها أعلاه كان ينطلق من الافتتان بالربط وإيجاد النواظم بين أمشاج من القصص والأساطير التي يعسر إيجاد ناظم بينها , لكن بورخيس كعادته مؤمن بأن كل كتاب يتضمن وعدًا بجميع الكتب على نحو آلي وفكري معًا ( ينظر المقابلة معه التي أجراها ألبرتو مانغويل والملحقة بكتابه (كتاب المخلواقات الوهمية ص 170 )

          والجميل أن هذا الفنان المؤمن بحركة التغير والتبدل المستمر وفكرة المعاني القارة وراء البدد والفوضى يعكس في أول قصة يبدأ بها كتابه عن المخلوقات الوهمية أمرًا ذا دلالة بعيدة عن كائن هو (آباوآقو) وهو كائن لا مرئي ، وليتأمل معي القارئ الدلالات التي تبدأ من نقطة اللامرئي هذا ،  فهذا الكائن غير المرئي يعيش في حالة من السبات , ولا يحيا إلا حينما يتفاعل مع مرور البشر فيتأثر بقيم الأرواح المارة  بجواره . وآمل أن ينتبه القارئ إلى فكرة التفاعل التي تصنع التغير الفتان للأشكال ، والتي تشبه فكرة التشكيلات الجميلة التي تحدث بالتفاعل بين حركة يد اللاعب بلعبة المشكال .

      يقول بورخيس عن هذا الكائن إنه يقيم منذ بدء الزمان في سلّم برج يسمى برج النصر ، ويحيا في حال من السبات على أول درجة من درجات السلم . ولا يتمتع بحياة واعية إلا حينما يبدأ أحد البشر بصعود الدرج ؛ حيث يتأثر بقيم الأرواح البشرية , ويلتقط الذبذبات ممن  يصعد سلم البرج , إذ تبدأ الحركة تدب في جسمه الشفاف , ويكون حينها عند كعبي رجلي الصاعد ومع كل درجة يغمق لونه , وتتشكل هيئته على نحو أوضح .

           ويضيف بورخيس إنه حينها " يزداد سطوعًا ذلك النور الذي يشع منه . يكمن البرهان على سرعة تأثره في حقيقة أنه يبلغ كمال هيئته فقط عند الدرجة الأخيرة حين يكون الصاعد كائنًا روحيًا متطورًا سوى ذلك فإن الآباوآقو يلبث كالمشلول قبل أن يبلغها غير مكتمل القوام ، حائل اللون ، مترنح الضياء . "

          والـ (آباوآقو) كما يؤكد بورخيس لا يبلغ الدرجة الأخيرة إلا حينما يكون الرجل أو المرأة التي تصعد الدرج مفعمًا أو مفعمة بالطهارة حينها يبدو مكتمل الخلقة , مشعًا بأنوار زرق ساطعة ، لكن عمره وجيز جدًا ؛ إذ ما إن يعاود الشخص النزول من السلم حتى يقع متدحرجًا ويسقط مطفأً وغير مرئي . ويختم بورخيس حكايته عن الـ  (آباوآقو ) بواحدة من قفلاته المدهشة : " على مر العصور لم يبلغ الآباوآقو الكمال إلا مرة واحدة . "

          وكفى بهذه العبارة المزلزلة عن تردي حالة الترقي والصعود وانحدار القيم في عالمنا المعاصر دلالة على تراجيدية أراد بورخيس , وهو يقص قصة أسطورة اللامرئي (الآباوآقو) , أن يؤكدها في لعبة التغير والحركة والصعود والهبوط ومحاولة الاكتمال اليائسة التي هي في النهاية انعكاس لقدر بشري أيضًا !!