الصفحة الرئيسية
 /  
الحلم موصولا
 /  
رجوع

الحلم موصولا


تأخذني حالة من الانخطاف ورجفة مخيفة حينما اتخيل انني اتذكر – أو يتهيأ لي أنني حقا يمكن أن اتذكر –الماء الأول، الماء الذي كنت اسبح فيه في قربة أمي!!

 

وليس هذا هو هاجس العودة الى الرحم –كما يحلو للتحليل النفسي ان يقول حين يجرب لغته – وليس التعلق بالبراءة وحنين العودة إلى الماضي أو الطفولة – إن كنت غادرتها- وهو الذي يوقظ فيّ هذه الأفكار، لكنها اللغة وحلم الابداع والخلق المدهش هي التي تحرضني على العودة الى البئر القصية فيّ أروَّض فيها احلاما لا أعرفها، وأخرى عصية تعرفني، اخرى أحاول ان اتنصل منها وهي تلح تلح وتطاردني، وأخرى اعتقها..

الآن يلح عليّ منظر الطفلة التي بكت حينما تحدثت مع الأهل عن الحلم الذي رأته – وهم فيه – وسألتهم وقد حضروه معها بأن يكملوه فأنكروه، فبكت غير مصدقة ما يحدث، حيث لم يكن بإمكانها ان تدرك معنى الحلم، ففي خبراتها الصغيرة لا يمكن ان يكون الحلم إلا جزءا حقيقيا من الوجود، جزءا جميلا ملتحما بالوجود يشتركون في أدائه وإحيائه. لاحقا أدركت بمرارة كيف ينفصل الناس بسهولة، ويتخلون عن أحلامهم الصغيرة والكبيرة الجميلة المشتركة وينعزلون أو ينشغلون!!

الآن يلح عليّ منظر الطفلة التي أيقظها أهلها فدمعت عيناها لحظة استوت على فراشها واكتشفت انهم قطعوا عليها الحلم، فراحت بعفوية الطفولة وعذوبتها تطالبهم بأن يعيدوها ثانية الى النوم أو الحلم، او يعيدوا اليها الحلم موصولا في اليقظة فهي لا تريد ان تنفصل!

يلح عليّ ذاك المنظر و اتمنى لو انني الآن بعد ان كبرت استطيع بكل الجرآة المحببة ان افعل، لكنني  كففت عن تلك السذاجة الطفولية العذبة، فقد امكنني في حالات كثير ان أعود الى الحلم المقطوع بحلم اللغة لاكتشف لاحقا أنهما دائما كانا واحدا، وان الشعر و الابداع بكل أنواعه هو تنويع على احلامنا المبتورة المدهشة تلك التي بهرت نومنا و الهبت يقظتنا بمطالب معجزة لا تصدق!!

وليس الشعر و الابداع بكل أنواعه وأشكاله مجرد تنويع على الحلم بل هو ايضا إعادة الصلة بشيء واحد. وليس الحلم أو الشعر غيبوبة عن الوجود، بل الحلم والشعر هو استعادة الوجود بمنطق الحلم الفني ورؤيته محررا من التضاد والتناقض والاستحالة، ان – الحلم والشعر و الابداع عموما- إعادة ربط للوجود وإيجاد وحدة لعناصره المبعثرة.

كم من مرة اربكني الحلم والشعر وأربكتُ اليقظة بإلحاح طفل لجوج بالانخطاف نحو الحلم ؟ كم مرة أشرعني الحلم على الشعر والشعر على الحلم، كم مرة سمعت الأذان في مآذن الحنجرة فأقامت الجوارح الصلاة؟ كم مرة ساءلت ولاطفت هذا الصوت الطفل المتبرعم على ضفاف الآه واللثغة والبدايات الغضة الأولى، هذا الصاعد من بخار القلب، المدفوق وليدا من – المحاريب الداخلية التي رددت مع كل تقلبات جنين النبض دهشات ترتيله وهو يقبل برزخ الحياة الأول.

ترى كم تستعيد فينا تلك الحالات من بلور الماء العتيق ومن منطقة الحلم الخفية القصية حينما يترقق وجد الشعر وشعر الوجد في عين القلب و ينسرب إنشادا عبر مآذن الغناء يؤذن بانشقاقنا عن أنفسنا أو عليها، بخروجنا الى العالم او عليه، بالولادة والصخب، بالغناء والعقوق المبارك، فقلما افترت شفتا الحلم عن الواقع إلا وبدا مثل غلظ فاحش يحتاج الى تصحيح!! عندما تتعثر في اليقظة تقوم تتحسس نفسك تخاف ان تكون انجرحت او انكسرت عظامك، لكنك حينما تتعثر في الحلم تهب مفزوعا تلمس قلبك، تلمسه تخاف ان يكون مكسورا، ولا تدري أذاك الضجيج اصطحاب النبض الراكض المتألم ام صوت أشياء أخرى فيه مازلت توالي انكسارها، لكن حينما ينكسر حلمك نفسه قد تتعثر حياتك كلها!! كنت أركض في حلم فتعثرت بحلم ضيعه صاحبه فاستيقظنا معا!!