الصفحة الرئيسية
 /  
رأس القصيدة المقطوع 1
 /  
رجوع

رأس القصيدة المقطوع 1


قرأت ديوان (شرفات الخريف) للشاعر إبراهيم نصر الله ولفتت نظري هذه اللغة الشعرية الآسرة ببساطتها العميقة ، بخفة الظل التي تغلف المأساة والتراجيديا حينما يقتضي النص الإحالة إلى ما يؤلم النفس ويشجيها. وقد شجعتني لمزيد تأمل واستمتاع سمة أخرى في الديوان وهي ميله إلى النصوص الشعرية القصيرة جدًا والمكثفة ، أي الرشيقة الموجزة قليلة الثرثرة عميقة الغوص .


 ويمكن النظر إلى بنية قصائد الديوان الموجزة مع تأمل عنوانه (شرفات) فكما تبدو الشرفات بالنسبة للبناء الكبير تبدو قصائد نصرالله فيه كشرفات يطل من خلالها بوصف الشرفات أقل ما في البناء مساحة انفتاح وثرثرة إلى الخارج!!

 كما يمكن النظر إلى هذا التوجه عند الشاعر بوصفه موقفًا رؤيويًا تجاه الشعر نفسه وما تحققه القصيدة ، إذ يراها كشمعة تنوس برأسها المقطوع لتستدل بنفسها على نفسها في درب قطعته آلاف المرات ، فكم من المسافات ، منذ القديم ، قطعها الشعر إلينا ليصل؟ على المسافات إذًا أن تُختصر على الرغم من الحلكة والثمن المدفوع : أعني رأس القصيدة المقطوع _ حسب عبارة الشاعر نفسه _ رأس الشمعة/ القصيدة .

          سأختار للقارئ نصًا يبين كيف يتناول الشاعر حزنًا صار عاديًا أو شبه عادي لفرط تكراره.  ويبين كيف يناقش فكرة وجودية بطريقة تشبه اللغز أو تشبه (القفشة) لكنها تملك على القارئ مشاعره وتستثير مخيلته . كم من المرات تكررت الأحزان في حياة الأزواج ، والزوجات خاصة ، حينما يكتشفن أن حلمهن الرومنسي المصبوب في مقولة (يأتي الحبيب أو الفارس على حصان أبيض ويخطف الحالمة إلى عالم وردي جميل) لم يكن سوى وهم أو (خدعة) كما ستهمس المقطوعة القصيرة التالية :

« جاءها الحصان وحده

الفتاة التي انتظرت

جاءها الحصان وحده

كي لا يكون نصف الخديعة .»(1)

          إنه إذا كان الفارس مع الحصان خديعة كاملة ، حسب معادلة الجملة منطقيًا ، فإن مجيء الحصان وحده يفترض أن يكون نصف الخديعة ، لكن النص يقول غير ذلك . فحسب النص يأتي الحصان وحده . وكأنه  قد تعمد أن يأتي وحده بهدف نقض الاحتمال أو طرف الجملة المنطقي، أي كي لا يكون نص الخديعة . فهل يعني أن مجيئه كان خديعة كاملة غير منصوفة ، أم كان حقيقة كاملة ؟ النص يترك لغزه الشعري مفتوحًا برهافة وخفة على موقف وجودي حزين ، أو بلغة أرسطو الدرامية ، يتركه في لحظة تعرف وانكشاف مأساوية لحقيقة كاملة تبدوكأنها كذلك ، لكنها تنطوي على وجهها الآخر: الخديعة الكاملة  .

 والظريف هنا أن الشاعر، وهو مقتصد جدًا جدًا في نصوصه التي معظمها لا يزيد عن خمس جمل أو ست جمل ، نراه هنا في نص مكون من أربع جمل فقط يكرر الجملة الأولى في أول السطر الثالث . والتكرار قليل عند نصر الله ، ولذلك حينما يكرر يدرك القارئ الأهمية التي تشحن في دلالة الجملة المكررة : جاءها الحصان وحده . إذًا هذه الفتاة التي انتظرت وترقبت تعيش لحظة الانكشاف، أو لحظة التعرف الدرامية لموقفها الوجودي الذي يحيل انتظارها إلى خيبة وانكسار، فالحصان يأتي وحيدًا . والجميل في هذا التشكيل الشعري الذي يحيل إلى فقر الحالة وإفلاس الترقب من شقه الإنساني (عدم وجود الفارس) فالمتوقع أن يكون الجانب الحيواني في الصورة (الحصان) بلا إرادة أو قرار وإنما يساق سوقًا إلى مصيره ، لكن الشاعر يقلب التوقع ؛ فالحصان بسبب خواء الفارس وعجزه أو غيابه يقوم بدور الفارس ؛ فنراه هو الذي يبادر ويتخذ موقفًا إزاء هذا الإحباط وانتهاك التوقع، فهو يملك إرادة الحضور لهدف نبيل : أن يناهض الخديعة ، ويرفض أن يشارك فيها :  (كي لا يكون نصف الخديعة) , وأحسب أن القارئ قد اقترب من خلال تقريب دلالات النص أعلاه إلى ما قد يكون أراد نصر الله أن يقوله بطريقة شعرية جميلة متحدثًا عن مأزق إنساني وجودي متحاشيًا فيه ثقل الفلسفة والذهنية والنواح الدرامي .

 


(1) إبراهيم نصر الله ، شرفات الخريف (بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط. الأولى 1997م ) ص 129.