للمؤلفة الكاتبة الإنجليزية جاين ليد كتاب بعنوان ( عجائب خلق الله كما تجسدت في تنوع العوالم الثمانية ، وكما عاينتها المؤلفة سنة 1695م ) والذي يُشار إليه اختصارًا ( العوالم الثمانية ) تتحدث فيه عن مخلوق تحُدد ماهيته بالغبطة ، وتقول إنه إذا كانت ماهية السمندل وملاذه المفضل النار ، وإذا كانت الحوريات ملاذها المياة الجارية .. فإن هذا المخلوق الذي تتحدث عنه ملاذه في كل مكان , وماهيته تقوم على الغبطة ؛ لذا يبحث عنها في كل مكان .
تقول : " فمن يبحث بدأب عن هذه الغبطة يبحث عنها حيثما كان ، حتى في أشد الأماكن إظلامًا وأكثرها خسة في هذا العالم والعوالم السبعة الأخرى . ولن يكون حد السيف إذا اخترق جسمه سوى باعث لذة ربانية خالصة ، أعيننا ... قد أعطيناها لكي نتتبع طريقه , وتُنبئنا الحكمة بأن أعطيةً كهذه إنما يُعطاها الطفل أحيانًا . "(1)
كائن الغبطة هذا _ كما يروق لي أنا أن اسميه _ يعلمنا درسًا صعبًا ، وهو أن الغبطة ليست أعطية أو منحة , إنها نتيجة دأب , وهي ضالة منشودة ، والأصعب من هذا إدراك أن الغبطة مع كونها شيئًا نادرًا إلا أنها قد تنبع من وسط الخراب والأنقاض ، وفيما لا يُتوقع وجودها فيه . أما كونها معطاة للطفل في بعض الأحيان فهذا يعلمنا درسًا آخر يمكن أن نستنتج منه أنها قد تكون نقيض الحكمة والخبرة , وربما ليست مرتهنة لفكرة الزمن أو أنواع التدجينات الأخرى .
إذًا وفق المستخلصات أعلاه من نص (العوالم الثمانية) تبدو لي الغبطة شيئًا غريبًا ، ومرتكزة على مفهوم مُسْبقٍ ومتعالٍ عليها ؛ تبدو الغبطة مدجنة ومأسورة وفق رؤية تبحث عن شيء مستعاضٍ أو بديل لشيء غير موجود . ولست أشير هنا إلى أن المؤلفة عمياء ، فلا شك أنها وهي تكتب عن مخلوقات أو كائنات لها روح مؤسطرة يمكن أن تبرز مثل هذا الكائن على هذا النحو ، لكني لست هنا لأناقش أسطورية الكائن ، ولكن لأني فُتنت بفكرة وجود كائن ماهيته الغبطة ربما أملتُ أكثر بالكشف عن هذه الماهية في أماكن أخرى غير الأماكن المظلمة والوسخة والنجسة والنتنة !!
إنه على الرغم من أن فكرة إيجاد الغبطة وسط الأنقاض ووسط الظلام تبدو لامعة , وتبدو ذات بعد مُخلّصٍ أو حتى وجودي صرف يدعو الكائن إلى عدم الاستسلام والانهيار إلا أني أراها مُجتزأة , وفيها شيء من المبالغة والاستخفاف . ولعل ما يمكن الاتفاق بشأنه بخصوص الغبطة أنها أمر نادر ، ولا يستهان به ، ويمكن _ بل يجب _ أن تتحول عند الكائن إلى مطلب حيوي ، يتدرب عليه وفق برنامج ونظام ذهني وشعوري وواقعي يعمل معه وبه وعليه !!
1 - بورخيس كتاب المخلوقات الوهمية . ترجمة بسام حجار ( بيروت , المركز الثقافي العربي ط الأولى 2006م ) ص 66 .