الصفحة الرئيسية
 /  
الحفرة والصدفة وعي المغامرة ونفي المفاجأة
 /  
رجوع

الحفرة والصدفة وعي المغامرة ونفي المفاجأة


خـــــلاصة:

أتناول في هذه الدراسة مفهوم الصدفة والحفرة عند إبراهيم الحسين. وأكشف في البدء عن مفهوم الصدفة بوصفه مفهومًا وجوديًا إنسانيًا، وبوصفه ذا بعد فني يطرح سؤال المغامرة الشعرية والتجريب المفاجىء. وعلى هذين المحورين أكشف في الدراسة كيف تجدل النصوص مفهوم الصدفة ومفهوم الحفرة على بعديهما الوجودي الانطولوجي والفني المتمثل في هموم الشعر وانشغالات التجريب.


دراسة بعنوان ( الحفرة والصدفة : وعي المغامرة ونفي المفاجأة) قراءة في قصيدتي حفرة وصدفة لإبراهيم  الحسين نشرت في (مجلة الدراسات العربية) الصادرة عن جامعة المنيا عدد مارس 2005 م

تبدو الصدفة كفجوة أو ثغرة في سياق الحديث عن الحرية والحتمية. إنها على أقل تقدير منطقة قلق وجدل تزعزع وهم  الحرية، وتفتح وهمًا آخر في قلب الحتمية. هكذا تبدو المسألة لو نظرنا إليها أو قبلناها كما تطرحها الرؤى في الفلسفة أو في الأدب؛ فسارتر، مثلاً، الفيلسوف الذي كرس عددًا من مؤلفاته أيضًا للأدب أو للكشف عن القضايا الوجودية في الأدب قرر في آخر كتابه (بودلير 1947م) ما يلي: "إن الاختيار الحر الذي يجعله الإنسان لنفسه يتماهى بشكل مطلق مع ما يُسمى قدره"(1).

إذا كان قدر المرء يتماهى بالاختيار الحر الذي يقوم به فالحياة، حسب هذا القياس، حرية أكثر مما هي قضاء وقدر، ومن هنا تطرح الأسباب والعلائق والعلل نفسها كمآزق يصعب تجاهلها، وتبدو الصدفة واحدة من المسائل النابية نبوًا مشاغبًا في قلب المستقر والثابت وفي قلب الوهم والحرية، ومن هنا كانت قضية الصدفة واحدة من المسائل المهمة والمداخل الأساسية في الفلسفة، مثلما كانت واحدة من الجمرات التي يتقد بها وجدان الأديب ووجوده، وواحدة من مآزق قلقه الوجودي في الحياة.

والشاعر إبراهيم الحسين ينشغل في قصيدته (صدفة) وقصيدته (حفرة) بأوضاع إنسانية متأزمة، وبرؤى شعرية ومعانٍ مشحونة بالهم الإنساني وبهمّ الشاعر خاصة المتعلق بقلق الإبداع والإنجاز الشعري المتحقق، ولذلك تبدو الصدفة نموذجًا باذخًا للحوار حول ما هو فادح: حول الحرية والحتمية، سواء أكان الحوار على مستوى القدر الإنساني وجوديًا أم على مستوى القدر الذي يقرره ويصنعه الشاعر لقصيدته، ويختاره لها فيقرر كشاعر صدفته الشعرية أو خياره التجريبي الخاص.

يبدو إبراهيم الحسين في نصوص ديوانه (انزلاق كعوبهم) الذي مازال مخطوطًا متجهًا أكثر مما مضى في ديوانيه السابقين نحو مزيد من التأمل الذهني العميق، الذي لا يبخل على قارئه بخلاصة رؤاه واستبصاراته الذهنية والشعورية، فيمنحه دهشات متتالية، ويفتح له في قلب الرؤى القديمة والمعاني السائدة المألوفة منافذ جديدة.

وقصيدتا (صدفة) و (حفرة) اللتان اخترتهما من هذا الديوان تساهمان ضمن بقية النصوص في ترسيخ دلالة عنوان الديوان (انزلاق كعوبهم)؛ إذ عنوان الديوان يشير ضمنيًا إلى الحفرة، فانزلاق الكعب يعني التعثر المفاجئ والسقوط. كما أن الانزلاق يتضمن معنى المفاجأة وحدوث مالم يكن متوقعًا، أي الصدفة بمعنى من معانيها السلبية. إن ما لم يكن متوقعًا هو ما لا يمكن تفاديه، وهو الحتم ضرورة. والحتم مفهوم مرتبط بالقدر الذي لا يمكن تحاشيه. ولعل في هذا ما يفسر اهتمام إبراهيم الحسين بأن يخص (الحفرة) بقصيدة في هذا الديوان، كما يفسر تكرار مفردة الحفرة والحفر في عدد من قصائد الديوان، إن التصادي والتماهي بين الصدفة والحفرة يلفت النظر، ويجعل القصيدتين اللتين تحملان عنوان (صدفة) و (حفرة) تبدوان متلازمتين تلازم غياب وحضور من جهة وتلازم تماهٍ يدركه القارىء حينما يستحضر معجـم الديوان بأسره ورموزه المتـآزرة، وأقول تلازم حضور وغياب وتماه لأن قصيدة (صدفة) تحضر فيها مفـردة الحفرة والعتمة ومخاوف السقوط، وبذلك تحيل القصيدتان الواحدة منهما على الأخرى في علاقات الحضور والغياب وتبدوان للقارىء كقصيدة واحدة.

حفرة الوجود وحفرة الشعر:

يفتتح الحسين قصيدة (حفرة) بإعلان الخوف من السقوط في حفرة اليد. وبسبب الخوف من عمق حفرة اليد، كما يقول، يبدأ في تحريك الحنجرة، ولكن حينما يفتتح النص لا نعود نفرق أيهما الذي تحرك مياه الحنجرة أم حفرة اليد، يقول:

"تخشى أن تقع في حفرة يدك، لأن شفتيك مطبقتان، ولأنك ترقّقُ عتمة صمتك بالنظرة تعلّقها على التكايا، على الالتماع البسيط لعلبة السجائر، على سواد المنفضة الأليف. وبسبب عمق حفرة يدك، تحرّك حنجرتك، تأخذ مياه حلقك إلى داخلك، كأنك تخشى عليها هي الأخرى تأخذها بصوتٍ لا يسمعه سواك، صوتٍ هو رقرقةُ مياه وحدتك، الرقرقة التي تدلّ قدميك إلى المواضع الأقل خطرًا؛ عينيك إلى وثيق الأثاث، تقود أصابعك نحو إغماض عينيك تتلمّسُه كجدارٍ، فإذا ما انقطع وقفتْ، لأن حفرة اليد وشيكة، لأنها مخادعة، مموّهةٌ بالكلام،  وبالضحكات أحيانًا، بالصمت، بالمصابيح تضيئها واحدًا واحدًا، كلّما أضأت مصباحًا، قلت: هــذا قد لا يكفي للقبض عليها مبكرًا، لا يكفي للانتباه إلى التشقّق الخفي لحافتها"(2).

تعلن القصيدة منذ أول كلمة فيها الخشية من السقوط، ويشيدّ الشاعر منذ البداية تعارضًا معلنًا بين حفرة اليد ومياه الحنجرة، بين الداخل والخارج. بين الداخل الذي يبدو مترقرقًا، الرقرقة التي تدل على مواضع أقل خطرًا وبين الخارج / حفرة اليد العميقة المخادعة التي قد تغدر في أية لحظة، ويتحسب لها الشاعر بمصابيح ليضيء احتمالات الانتباه للتشقق الخفي لحافاتها، التشقق الذي يبتلع سواده هواجس الشاعر من السقوط.

والسائد في التعبيرات الأدبية أن الداخل يكون عميقًا وبعيدًا وغامضًا ويحتاج إلى إضاءة، لكن الشاعر يدحض هذا السائد المألوف في أدبيات الإنشاء، ويجعل الوضع مقلوبًا؛ فالصوت/ الحنجرة حالة رقراقة وديعة تبدو في الداخل مضيئة لامعة، أما حفرة اليد/ همّ الكتابة فسواد عميق مخيف وعتمة متواصلة يحشد لها الشاعر مصابيحه، ويترقب السقوط في شقوق الكتابة الخفية. وتبدو هنا اليد/ الحفرة مصيدة مراوغة. إنها حتم لا يستطيع الشاعر مقاومة أن يذهب بكامل وعيه وإرادته إليه، على الرغم من الوعي الظاهر بها وبأنه يتحاشى السقوط. ولكنه يوالي الإضاءة في عمق حفرة اليد. يقول:

"حفرة يدك العائمة، تلك التي تبصر وجهك فجأةً، مستسلمًا في قاعها، عينيك وشفتيك مغطاة بأبخرتها فلا تتعرف إليها إلا من ظلال خيبتها، إلا من النصل الذي يجرح أيامها لتقطر عزلات بعيدة.

تخشى الوقوع، وتحاول ألا يحدث، فتشعل السجائر واحدةً تلو الأخرى، تشعل نظرتك في منفضةٍ سوداء أليفة، تحصي سجائرك التي اتكأت عليها.

تؤجل حدوثه، فتنهض مستعينًا بالحمّام، حتى وإن كان داعي ذلك ليس ملحّا، تطيل المكوث هناك، وتطيله عند المغسلة، عند المرآة التي تأخذ وجهك بيديها، تضعه تحت عينيك لترى جيدا إلى عمقه الآخر.

رائحة التراب ملء أنفك.

أنت بلا فائدة تفرّ من يدك، ومن وجهك، بلا فائدة تفرّ  من صوتك. الحفرة اتسعت وطلبتك."(3)

هكذا يعلن الشاعر أنه لم يكن بإمكانه أن يتحاشى قدره، لم يكن بإمكانه أن يتحاشى السقوط في حفرة يده. إنه من المدهش أن ما بدأت به القصيدة نقضه آخرها؛ فالبناء الذي أقامه الشاعر متعارضًا، أو شبه متعارض، بين الحنجرة واليد صار في منتصف القصيدة إلى ما يشبه الامتزاج، حيث يرى الشاعر وجهه وعينيه في حفرة يده التي صارت عائمة. وقد عامت بما ترقرق فيها من مياه الحنجرة وصور الداخل، وصارت تنعكس فيها وتصعد منها أبخرة يتعرف فيها الشاعر على خيبات الصوت فتقطر عزلات بعيدة. ولهذا السبب تفاجئنا القصيدة في آخرها بأن الصوت والوجه والعينين واليد كلها شيء واحد، وأن الحفرة هي انغمار الشاعر في كينونته ووجوده؛ حيث نكتشف أن الشاعر كان منذ البداية يتحدث من قلب الحفرة ومن قلب مصيدتها. ولا ينتبه القارىء أن الشاعر كان وهو يسرد مخاوفه من السقوط في الحفرة كان يقص قصة وقوعه الحتمي في مصيدة الكتابة وفي حفرة النص. ليس في الإبداع أو الكتابة أية صدفة، إنها حتم مقدر، ولابد للشاعر من السقوط في عمقها. الكتابة تطلب صاحبها تترصد له كمن يطلب ثأرًا.

تدبير الصدفة وصنع النص:

بينت – فيما تقدم – أن قصيدة (حفرة) تأسست منذ البدء على نقض ودحض المفاجأة والانزلاق المرتبط بعدم الانتباه لوجودها وذلك بسرد محاولات يائسة لتحاشي السقوط الحتمي. واتضح أن الوعي والانتباه لم ينج صاحبه من حتمية السقوط. وهذا الحتم الذي يختم به الشاعر قصيدة (حفرة) مع جملة المعاني المرتبطة بدحض عدم الوعي وتأكيد الانتباه يحضر بقوة في قصيدة (صدفة) وتحضر مفردة الحفرة والعتمة، ويطغى حس الحتمية والضرورة.

إن الصدفة تعني بالضرورة أن يكون الانتباه غائبًا والوعي باحتمالها أو بوجودها معدومًا. ولكن الشاعر يهدم منذ البداية كل المعاني السائدة المتعلقة بالصدفة. ولذلك تبدو الصدفة ذات صلة بالحفرة بإعلان الوعي بها ونفي مفاجأتها.

إننا وجوديًا وزمنيًا نفهم الصدفة بوصفها الشيء الذي يحدث فجأة. وهي جزء نافر من سياق الحدث الروتيني المعتاد المتوقع، تبرز فجأة وتنحرف بالحدث لمنطقة فوق المألوف أو المعتاد، لذلك تبدو مختلفة سواء أكانت انحرافًا سعيدًا أم سيئًا . إن الصدفة لحظة تفتيت لوحدة حدث ما ولحظة كسر لسياق ما في سيال الزمن. والصدفة عند كثيرين تبدو بلا علة ولا ضابط من نظام أو نسق أو ترتيب، وفي ذهن كثيرين ترتبط بالعشوائية والفوضى. وتبقى الصدفة نافذة مفتوحة على الاحتمال، وتعيد الإيمان بأن ما حدث صدفة ليس سوى ثقب صغير على عالم الاحتمال غير المرئي أو غير المكشوف.

كل هذه المعاني المرتبطة بالصدفة: فجائيتها، وعدم توقعها، ونبوها عن النظام والترتيب المسبق يهدمها إبراهيم الحسين في قصيدة (صدفة)، يقول في أول القصيدة ممهدًا لفكرة أن لا صدفة مطلقًا، وأن كل خطوة نعملها ليست سوى جزء من سيرورة تؤدي حتمًا إليها:

"صدفة أن نصحو، وصدفة أن نحلم، أن نعثر على أيدينا بعد النوم، وأن نتأكد من أن يدًا لم تمتد إليها، تسرقها، أو تخفيها... الصدفة نضج السعي إليها، امتلاء الآخر بك، امتلاؤك بهذا الآخر، حد عدم الاحتمال، حتى يصير حتمًا بلوغ الصدفة، فالصدفة بلوغ إذن"(4).

الصدفة كما يقرر إبراهيم الحسين بلوغ. وبغض النظر عن الدلالة الفسيولوجية لكلمة بلوغ هنا، والتي سيعيد زرعها في الحقل الدلالي نفسه بعد قليل في القصيدة؛ حيث الصدفة الخضراء ذات الجذور والسوق التي تندفع نحو البلوغ والإزهار، بغض النظر عن هذه الدلالة  فهي تبدو بلوغًا من جهة أخرى؛ حيث هي وصول حتمي لترتيبات مقصودة في تفصيلات الحياة اليومية المعيشة، فالصدفة عنده تحدث قبل حدوثها،لذلك يسخر من فكرة الصدفة، ليشعرنا بكم الصدف المتربص بنا والمختمر تحت تنويعات وايقاعات شتى من تحركاتنا المقصودة. يقول:

"صدفة أن نتحدث، وأن يخرج الكلام تأجيلاً لصدفة الصمت، لأنه الصدفة الأقسى، الأكثر جرأة على المهاجمة، الأقدر أكثر من غيره على الفتك، لأنه الساحة الأرحب، تختمر فيه الصدف، أو ترابط، تتدرب لكي تقوى، وتشتد سواعدها، تصبح جاهزة، مجهزةً، حتى تباغت وتغزو، وتحت تأثير المباغتة، وبفعل وطأتها، شدة وقعها، تبقى مجهولة، فنتشبث بحروف الصدفة، لنقول إننا على الأقل تصرّفنا.

الصدفة تحدث قبل حدوثها، تبْدأ لكنّا لا نرى تلك البداية، مثل نبتة تختمر بعيدًا عن العيون، تحت الظاهر من الأرض، لتظهر فيما بعد ساقًا، وريقات،... صدفة خضراء"(5).

يخلص الحسين في آخر هذا المقطع إلى قول أشبه ببيان فلسفي قاطع في إيمانه ووضوحه بما يشهره من خبرة وتجربة: (الصدفة تحدث قبل حدوثها)، ولكنها تبدأ في مكان ما في عتمة ما تُحجب عنا، فلا نرى كيف تختمر كنبتةٍ بعيدة مخبأة عن العيون، لتظهر فيما بعد فجأة كصدفةٍ خضراء.

ويغلف الحسين الصدفة التي تحدث قبل حدوثها بالعتمة، ولأنه يربطها بالعتمة سيحضر الخوف بالضرورة، فالظلمة تستحضر عنده مخاوفها من السقوط أو الارتطام بشيء ما، وبذلك ينكشف لنا أن الصدفة تحتوي الحفرة في باطنها، فتبدو الصدفة ليست سوى الوجه الآخر للحفرة، حتى إنه يستعملهما بالعطف والتناوب كمترادفين، يقول:

"النبتة صدفة والباب صدفة، والثوب صدفة، الأصوات والأغاني الضوء والعتمة، مجموعة من الصدف أو الحفر التي نلقي بها ما لا نقدر على السيطرة عليه، أو ما دبرناه في الخفاء، دون علمنا حتى، نلقي بها الذي سعينا إليه دون أن ندري، لكي نبرأ أو نتبرّأ، وحتى نبقى العاتق خفيفًا ونظيفًا، وناصعًا، فالصدفة منجاة، ودرع يقينا رمح حمل الوزر"(6).

هكذا إذًا تتماهى الصدفة بالحفرة، حيث يمتزج الوعي بوجود الحفرة، بالتدبير لحدوث الصدفة، ولكن كلا الوعيين لا يفلحان في إنقاذ الشاعر من أن يقع في أي منهما. وتظهر المفارقة الساخرة حينما يقدم لنا الصدفة وكأنها شماعة نلقي عليها ما لم نستطع السيطرة عليه أو ما أخفقنا في إحكامه. وفي إعلاء واضح لحس المسؤولية والحتمية يقرر أننا مسؤولون أيضًا عن صدفنا!!

هنا ثمة وعي يوحد  الحفرة بالصدفة. وأذكر القارىء بأن الحسين في قصيدة (حفرة) جعل الحفر تتسع وتتسع وتطلبه كمن يطلب ثأرًا،حتى إن الشاعر وجد نفسه في آخر القصيدة في عمق الحفرة، وفي عمق النص. وتبدو الحفر – كما أشرت هناك –  متماهية بالنص وبعملية الخلق الشعري والكتابة المنجزة، حيث لا فكاك مما تحفر اليد وتخطه. وهنا تتجلى الصدفة في تماهيها مع الحفرة كطالب ثأر أيضًا؛ يقول وهو المهدد بانتظار الصدفة ويقرر بوعي حاد ترقبه لها (وهو كما يلاحظ القارىء وعي مضاد أو مناهض للمفترض بالعلاقة مع الصدفة)، يقول:

"واقف بانتظار الصدفة، التي أعرف أنها انطلقت، بانتظار وترقب مجيئها، تلج مداخلي السرية، تصل إلى الأعماق وتستقر، ثم أمضي مثل آخرين كثيرين، جمعوا صدفهم حتى آخرها، ومضوا مطمئنين، خفيفين،من الانتظار والألم والوجع والصدف. نحن لا ندفن جثثًا... نحن ندفن الصدف التي اكتملت." (7)

ها هو الشاعر يترصد للصدفة التي بدأت تنطلق، وهي – حسب عبارة الشاعر  - توحي بأنها تنطلق كرصاصة، و هو يتابعها ويراقب توغلها في مداخله السرية إلى أن تستقر في أعماقه. ويفاجئنا الشاعر هنا بأن ما استقر ليس رصاصة وإنما جنازة للصدف يسير بها مع آخرين حملوا صدفهم إلى مقبرة ما. ويقرر فداحة ما حدث ليخبرنا كيف تبدأ الصدف وتكتمل وتنتهي إلى جنازتها. هكذا مع قرب نهاية النص يقرر أننا لا ندفن جثثًا وإنما ندفن الصدف التي اكتملت مؤذنًا بنهاية نصه الذي اكتمل وانتهى بنهاية هذه الجملة.

العمـاء وألم الوعي:

إن الشاعر هنا لم يدفن صدفه الوجودية فحسب، وإنما راقب نصه وهو يختمر، وينمو ويتخلق، وعاد لإعلانه من جديد ليقول لنا إن الصدفة تحدث قبل حدوثها، مثل النصوص التي تبدأ قبل إعلان تحققها ونشرها كنص مكتمل أو كصدفة حُملت جنازتها !!

لكن لماذا هذا الحس المضمخ بالمعاناة والألم والموت والجنائزية التي يعكسها هذا التصادي بين مفهوم الحفرة والصدفة وصناعة النص؟ هل التجريب انطولوجيًا ووجوديًا المضمخ بالمأساوي ملتبس ومختلط أيضًا بالتجريب وهمّ المغامرة الشعرية فنيًا؟

يبدو مفهوم التجريب والكتابة ومعاناة صنع النص مرتبطًا بما لا يمكن الفكاك منه،يبدو مرتبطاً يبدو مرتبطاً بالحتمي والضروري، إنه شيء قدري لا يمكن تحاشيه كالسقوط في الحفر، أو الزوغان عن رصاصة الصدف. وهو كما عكسته النصوص مرتبط بالعتمة والعماء. لقد رأينا كيف أنهى الشاعر قصيدته (صدفة) معلنًا تخففه من الترقب والانتظار والألم. لقد ترصد للصدفة وأعاد زرعها في قلب الحتمية والضرورة، وأبطل مفعول المفاجأة والترقب فيها، وسار بكامل وعيه وإرادته يستقبل طلقاتها أو رصاصاتها، تمامًا مثل الحفرة التي راح بكليته ليتماثل للسقوط فيها.

 هذا الوعي الحاد مضيء جدًا، وربما يتناقض مع مفهوم العماء الذي غلّف به قصيدتيه، وخاصة قصيدة (صدفة)، فالعتمة حاضرة فيها بقوة،وهي تأتي في القصيدة محيلة إلى اللاوعي، وهي لاشك ترتبط بمفهوم العماء. ومن جهة ثانية إن مفهوم الصدفة أيضًا على المستوى الفلسفي يرتبط بمفهوم العماء، حيث مفهوم العماء مقابل للأبولونية المرتبطة بالعقل وبالتالي بالأبوية(8)، فإذا أخذنا بالتقابل بين الأبوية والأمومية فالعماء يتبنى ديونيزوسية ترتد إلى الأمومية المرتبطة بالطبيعة والحدس. فهل في قصيدة (حفرة) وقصيدة (صدفة) (بما فيهما من وعي حاد ونزوع إلى إبطال الترقب والمفاجأة) هل فيهما ارتداد إلى الكاوس الديونيزوسي وإعادة تنظيم للحدس الذي يترصد القدر فينتظره ويتوقعه نافيًا المفاجأة والصدفة؟ هنا ثمة محاولة ترويض للطبيعة وعقل لها وإصعاد للحدس ليرتفع كبصيرة توازي الأبولونية .

إن ما قرره العلم منذ السبعينات حول اكتشاف النظام في اللانظام يحضر بقوة، وإن بطريقته الشعرية الخاصة في قصيدتي الحسين، حيث تخلص قصيدة (صدفة) خاصة إلى أن الصدفة ليست موجودة بالمفهوم القديم، وأنها ليست شيئًا مفاجئًا أو قائمًا على غير المتوقع لأنها نتاج نظام مقرر سلفًا. وهنا يبدو الإنسان في القصيدة يحاصر حتى الذي كان ممكناً أن يكون مكمن الدهشة والانتظار. والقصيدة بذلك تكشف عن أزمة الإنسان المعاصر الذي يحاصر بإدراكه كل شيء  حتى منافذ الحدس والدهشة فيعيش أزمته!! وتمسي  القصيدة مثالاً صارخًا على أزمة الشاعر الحداثي في مواجهة التجريب، كما تمسي في الوقت نفسه مثالاً ساطعًا على أزمة الإنسان المعاصر الذي يعيش حداثته التي وصلت بالتجريب حد الاستنفاد.

هكذا يكشف لنا الحسين عن حتمية الصدف وكليتها ودخولها عالم الترتيب المتعمد المسبق، ويبطل فتيل المفاجأة؛ فليس في عالم الحسين – كما تطرحه القصيدة- ما هو مفاجىء، إذ استنفد الكون طاقته، ولم تعد فيه ثقوب للمفاجآت والصدف.

وعــي المغـــامرة:

إن الصدفة والحفرة بهذا الوعي الذي طرحته القصيدتان تبدوان منشغلتين بالحتمية المقدرة القائمة على التنظيم، لا على مستوى القدر والأحداث للكائن وجوديًا فحسب، ولكن أيضًا على مستوى هموم الوجود الإبداعي الشعري للنص المكتوب ككائن. وقد بينت في مواضع سالفة كيف تحولت عملية كتابة النص إلى حفرة لم يكن للشاعر سوى الانزلاق فيها، كما بدا هذا الانزلاق واضحًا في كمين الصدفة التي أبطل الشاعر فتيل صدفتها. ليحملنا إلى اكتمالها بعد أن تابع تحركها ونموها، ذلك الاكتمال الذي يتوافق مع اكتمال صدفة النص الذي كان الشاعر منذ البداية يوالي صنعه وتطويره إلى أن جعل قفلته جملته الشعرية التي تعلن اكتمال الصدفة واكتمال النص في اللحظة ذاتها.

إن  الحسين ، وهو يتحدث عن الحفرة والصدفة على هذا البعد الوجودي للنص وليس للكائن، يدحض بالتأكيد ما تطرحه المقولات التي يتبناها بعض الشعراء حيث يسرفون في الحديث عن حالات صنع النص وحالات الخلق الشعري المرتبطة بالوحي والإلهام. وهي مفاهيم ليست بعيدة عن مفاهيم العماء والصدفة. فالعماء في هذا السياق يبدو مرادفًا لحالة اللاوعي المهيمنة وستبدو الصدفة أيضًا مرادفة لحالة الإلهام والخلق الشعري المرتبط بالشيء المفاجىء والآتي من الماوراء. إن هذه الشبكة من العلاقات بين هذه المفهومات هي ما حرص الحسين على دحضها.

ها هي الصدفة عند الحسين لا تتعلق بالكائن وجوديًا على مستوياته الشعورية والذهنية فحسب، وإنما ترتبط أيضًا بصنع النص وانشغالات التجريب. فالحسين و هو ينسج حديثه عن الصدفة يبدو من خلف ذلك كمن يفكر بأن عملية صنع النص وإبداعه عملية واعية، وتتطلب ذهنية عالية لا علاقة لها بالمفهوم التقليدي المرتبط بالإلهام وما دار في فلكه من أجواء صنع النص. هذا المفهوم الذي يمكن أن يترك المبدع رهنًا لظروف صدف الإبداع وحظوظ لحظات الإلهام. ولعل الحسين أراد أن يقول إن صنع القصيدة عمل خاضع سلفًا لترتيب وتخطيط كامن. وحينما يتعثر في حفرته الشاعر يكتشف أنه من حفر هذه الحفرة بنفسه، واختط منهجه وأسلوبه الشعري. وأحسب أن الحسين يمكن أن يصنف ضمن مجايليه من الشعراء تصنيفًا استثنائيًا اعتمادًا على سمة الذهنية التأملية العالية التي تسم شعره، والتي يظهر أنه يقصد إليها قصدًا، حتى لتصبح صدفته المختارة !! إنها توحده وتوحيده الواعي وغير الواعي بين الصدفة / الإلهام وفوضى الخلق وبين الضوابط والمعايير المختارة بعناية فنيًا.

ويحسن أن أذيل هذه النتيجة بقول لدريدا عن الكتابة والصدفة يقول فيه:

"إن الإفراط المغامر لكتابةٍ لا يُسيرها علم، لا تترك نفسها للارتجال إن الصدفة أو لعبة النرد التي تفتح نصًا كهذا، لا تتعارض والضرورة الصارمة لترتيبه (Agencement)  الشكلي- اللعبة هنا هي وحدة الصدفة والقاعدة، وحدة البرنامج وما يبقى منه أو يفيض عنه."(9)  ويقول في موضع آخر عن الكتابة والصدفة:

"النار واللعبة موجودان دائمًا، هيرقليط ونيتشه أعلنا ذلك، لعبة الصدفة مع الضرورة، لعبة الاحتمال مع القانون ... ما يقدم كاحتمال وصدفة في حاضر اللغة.. يجد نفسه مضروبًا ومبللاً بدلو من الضرورة فقط في انفراد هيئة نصية"(10).

هكذا إذا يمضي الحسين في صدفه وحفره، ويبدو مصممًا منذ البدء على أن تكون القصيدة منذ مطلعها سائرة نحو الهدم هدم المألوف وبناء الفكرة المناهضة على أنقاضها. وهذه الفكرة التي يهدم الثابت حولها هي فكرة لا يفتت ثابتها فكريًا فحسب، فمع أن الصدفة ذات بعد وجودي  وفلسفي واضح إلا أنها كحدث وجودي يمكن أن تقع على مفصل كارثي؛ ولذلك يكشف الحسين منذ أول النص عن مسعى مناهض للسائد من التباكي أو النواح الغنائي المجاني، ليتخذ من ذلك ذريعة للكشف عن صور شعرية مدهشة تتجه إلى هدف الكشف عن مفاصل كارثية أخرى ربما تكون أخفى وأعمق. وهنا تبدو الحفر عنده كالصدف أو الصدف كالحفر مكانًا للتعثرات المدروسة المحسوبة سلفًا، وهنا تكمن المفارقة الشعرية التي تحرف المضمون أو المفهوم في كلا القصيدتين نحو همّ التشكيل والصناعة الشعرية، حيث تصبح قصيدتا (صدفة) و (حفرة) ( بوصفهما نصين ماثلين ناجزين  ) علامة على ذاتيهما وتصيران محلاً للمغامرة الشعرية المحسوبة!!

إن هذه القصدية الواعية التي ينتهجها الحسين والتي تتعلق بمجمل النص وكامل أجزائه لا بقفلته وآخر جزء فيه تذكرني ببيت المفاجأة عند عمر أبي ريشة. فقد كان أبو ريشة يشرع في بناء قصيدته بحيث تسير سيرًا عاديًا حتى إذا جاء آخر بيت فيها ختمه بمفاجأته الشعرية. وهو ما كان يسميه بيت الفجاءة. أستعيد هذه التقنية الآن وأنا أتحدث عن قصيدة الحسين لكونها مخالفة تمامًا لهذه التقنية. فالحسين – كما أسلفت- يبني القصيدة منذ البداية وبوعي مسبق مخطط لأن تكون هادمة ومفاجئة وكأنما يوسع بيت الفجاءة ليتوزع على القصيدة كلها. هناك في قصيدة أبي ريشة تأتي القفلة جزئية وتبدو كنوع من اللقى الشعرية أو الصدف التي قد تكون صدفة الشاعر قبل صدفة القارىء، أما هنا في قصيدة الحسين فثمة وعي حاد بالصناعة والترتيب، إن ضرورات الصناعة الفنية لا تتعارض مع الصدف؛ بل تتحد معها وتوحدها في حاضر نص يعكس موقفه الوجودي والذهني الفلسفي والشعري أيضًا، وهو موقف مشهر بوضوح وحاسم في خياراته وصدفه.

 

الهوامش:

  1. تزفيتان تودوروف،نقد النقد. ترجمة سامي سويدان( بيروت. دار الإنماء القومي. ط. الأولى سنة 1986م) ص 56.
  2. إبراهيم الحسين، ديوان (انزلاق كعوبهم) ديوان مخطوط قصيدة حفرة.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق قصيدة صدفة.
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق.
  7. المصدر السابق.
  8. سعيد علوش، نظرية العماء وعولمة الأدب: تشظيات الإبداع وتشويش النقد (الرباط، نشر خاص ط. الأولى 2000) ص3.
  9. سارة كوفمان وروجي لابورت، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا. ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي (الدار البيضاء، أفريقيا الشرق ط. الأولى سنة 1991م) ص77.
  10. المصدر السابق ص 78.

 

 

حفــرة

تخشى أن تقع في حفرة يدك، لأن شفتيك مطبقتان، ولأنك ترقّقُ عتمة صمتك بالنظرة تعلّقها على التكايا، على الالتماع البسيط لعلبة السجائر، على سواد المنفضة الأليف. وبسبب عمق حفرة يدك، تحرّك حنجرتك، تأخذ مياه حلقك إلى داخلك، كأنك تخشى عليها هي الأخرى تأخذها بصوتٍ لا يسمعه سواك، صوتٍ هو رقرقة مياه وحدتك، الرقرقة التي تدلّ قدميك إلى المواضع الأقل خطرًا ؛ عينيك إلى وثيق الأثاث، تقود أصابعك نحو إغماض عينيك تتلمّسه كجدار، فإذا ما انقطع وقفت، لأن حفرة اليد وشيكة، لأنها مخادعة، مموّهة بالكلام، وبالضحكات أحيانًا بالصمت، بالمصابيح تضيئها واحدًا واحدًا، كلّما أضأت مصباحًا، قلت: هذا قد لا يكفي للقبض عليها مبكرا، لا يكفي للانتباه إلى التشقق الخفي لحافتها.

 حفرة يدك العائمة، تلك التي تبصر وجهك فجأةً، مستسلمًا في قاعها، عينيك وشفتيك مغطاة بأبخرتها فلا تتعرف إليها إلا من ظلال خيبتها، إلا من النصل الذي يجرح أيامها لتقطر عزلات بعيدة.

تخشى الوقوع، وتحاول ألا يحدث، فتشعل السجائر واحدةً تلو الأخرى، تشعل نظرتك في منفضةٍ سوداء أليفة، تحصي سجائرك التي اتكأت عليها.

تؤجل حدوثه، فتنهض مستعينًا بالحمّام، حتى وإن كان داعي ذلك ليس ملحّا، تطيل المكوث هناك، وتطيله عند المغسلة، عند المرآة التي تأخذ وجهك بيديها، تضعه تحت عينيك لترى جيدًا إلى عمقه الآخر.

رائحة التراب ملء أنفك.

أنت بلا فائدة تفرّ من يدك، ومن وجهك، بلا فائدة تفرّ من صوتك. الحفرة اتسعت وطلبتك.

الأحساء 12/ 9/1416هـ

 

صــدفــة

إلى : عيسى مخلوف

صدفة أن نصحو، وصدفة أن  نحلم، أن نعثر على أيدينا بعد النوم، وأن نتأكد من أن يدًا لم تمتد إليها، تسرقها، أو  تخفيها.. الصدفة نضج السعي إليها، امتلاء الآخر بك، امتلاؤك بهذا الآخر، حد عدم الاحتمال، حتى يصير حتمًا بلوغ الصدفة، فالصدفة بلوغ إذن.

صدفة أن نتحدث، وأن يخرج الكلام، تأجيلاً لصدفة الصمت؛ لأنه الصدفة الأقسى، الأكثر جرأة على المهاجمة، الأقدر أكثر من غيره على الفتك، لأنه الساحة الأرحب ، تختمر فيه الصدف، أو ترابط، تتدرب لكي تقوى، وتشتد سواعدها، تصبح جاهزة، مجهزة، حتى تباغت وتغزو، وتحت تأثير المباغتة، وبفعل وطأتها، شدة وقعها، تبقى مجهولة، فنتشبث بحروف الصدفة، لنقول إننا على الأقل تصرّفنا.

الصدفة تحدث قبل حدوثها، تبْدأ لكنّا لا نرى تلك البداية، مثل نبتة تختمر بعيدًا عن العيون، تحت الظاهر من الأرض، لتظهر فيما بعد ساقًا، وريقات،...

صدفة خضراء.

النبتة صدفة والباب صدفة، والثوب صدفة، الأصوات والأغاني الضوء والعتمة، مجموعة من الصدف أو الحفر التي نلقي بها ما لا نقدر على السيطرة عليه، أو ما دبرناه في الخفاء، دون علمنا حتى، نلقي بها الذي سعينا إليه دون أن ندري، لكي نبرأ أو نتبرّأ، وحتى نبقى العاتق خفيفًا ونظيفًا، وناصعًا، فالصدفة منجاة، ودرع يقينا رمح حمل الوزر.

واقف بانتظار الصدفة، التي أعرف أنها انطلقت، بانتظار وترقب مجيئها، تلج مداخلي السرية، تصل إلى الأعماق وتستقر، ثم أمضي مثل آخرين كثيرين، جمعوا صدفهم حتى آخرها، ومضوا مطمئنين، خفيفين،من الانتظار والألم والوجع والصدف.

 نحن لا ندفن جثثًا...

 نحن ندفن الصدف التي اكتملت.

 

رمضان 1422هـ   الأحساء