قراءة في قصيدة ( في متحف موريس أوتريللو ) لمحمد الرميح
بحث بعنوان ( الشاعر في المتحف واللوحة في الديوان ) نشر في مجلة العقيق الصادرة عن نادي المدينة المنورة الأدبي في العدد (65 - 66) مجلد 33 سنة 1429هـ /2008م
العلاقة بين الرسم والأدب والشعر خاصة كانت على مراحل مختلفة من تاريخ نظرية الفن والجمال موضع جدل . وقد كانت المقولات التي تبحث في القواسم المشتركة بين هذين اللونين من الإبداع تركز على الصور المكانية البصرية ، وعلى اكتشاف مناطق الصلة الحيوية بين الرسام والشاعر في الاشتغال على هذا البعد البصري وفضاءاته المادية .
ولكن ثمة جانب آخر من المسألة يقوم على الكشف عن مناطق الاختلاف بين هذين اللونين. ولعل اعتراض لسنج ومقولاته في كتابه ( اللاوكون ) ([1]) حول هذه المسألة من أشهر النصوص التي يمكن الإشارة إليها في هذا السياق . .
فقد وضح الحدود بين الشعر والرسم في كتابه ( اللاوكون أو في حدود الرسم والشعر ) . حيث " ميز بين الشعر بوصفه فن التوالي الزماني وبين الفنون التشكيلية بوصفها فن المعية المكانية " ([2]) وفيه يؤكد لسنج " أن فن الرسم يقتصر على انطباعات بصرية مفردة ، وبذلك فإنه يحقق وحدة واندماجًا يستحيل تحقيقهما في الأدب ،على حين إن الأدب هو الوحيد القادر على تقديم تتابعات حكائية تمتد عبر الزمان والمكان " ([3]).
ولكن الردود الكثيرة التي أعقبت ذلك تكشف عن إصرار الشعراء على أن الشعر يحقق ما يحققه الرسم " فإن الشاعر ، حسب تعبير بروست ، يحقق بالضبط مثل ذلك الانطباع المفرد المباشر وبوسائل وثيقة الصلة بتلك التي يستخدمها الرسام " ([4]).
وقد تقصّى مسألة العلاقة بين الشعر والرسم فرانكلين روجرز في كتابه ( الشعر والرسم ) ، وكان من أبرز ما توصل إليه أنه بما أن المجاز ظاهرة مكانية بصرية " فإن أكثر الطرق سرعة إلى مسألة الدلالة هي المرور عبر ذلك الوعي بالشكل الذي هو جوهري في خلق الفنون كلها ، ولكنه يظهر على نحو أكثر مباشرة في الصياغات المكانية - البصرية للرسام ، والمرور من ذلك الوعي بالشكل إلى ذلك الوعي بالدلالة الذي هو وعي القارئ نتيجة للإدراك الحسي للشكل الشعري " ([5]).
وهنا وأنا أتأمل وعي الشاعر محمد الرميح ([6]) ومروره من الوعي بالشكل والمدرك البصري إلى الإلماح إلى الدلالة عبر القصيدة قد لا أكون أتأمل وعيًا واحدًا وإنما ثلاثة ؛ فثمة وعي الرسام منعكسًا على وعي الشاعر وكلاهما منعكسان على وعيي النقدي ، فهل ما سأعمله مجرد مرور من الوعي بشكل القصيدة إلى الوعي بدلالاتها النصية ؟ .
1- في متحف موريس أوتريللو :
القصيدة التي سأتحدث عنها هنا لمحمد الرميح هي قصيدة ( في متحف موريس أوتريللو ) ([7]) وفيها يحدد الشاعر محمد الرميح عنوان القصيدة مربوطًا بالمكان ، فمنذ البدء يوقفنا الشاعر مع حرف ( في ) الوارد في العنوان على موقع القصيدة أو يموقعنا في حدث القصيدة ثم يعقب ( في ) بتحديد أدق يضعنا فيه في حدود المتحف ، متحف موريس أوتريللو .
هذا العنوان يضع القصيدة والحدث في المتحف ، وبالتأكيد فإن الشاعر لن يشغلنا بجزء من يومياته أو رحلاته أو سياحته وانطباعاته حولها ، فلدى الشاعر ما يقوله لنا عن شيء ما هنا في متحف موريس . تحديد الموقع يعني أن هاجس المكان كان ملحًا وضاغطًا ولم يكن بإمكان الشاعر تفاديه ، وهو ما يجعلني أقول إن الشاعر منذ البدء يعي بأنه يدفع النص نحو السرد ، فالمكان كحاضن للحدث هو من أبرز ما يمكن أن يقف عنده الراوي . ولعل هذا ما يفسر كيف أن نص القصيدة انشطر بين أسلوبين من أساليب السرد ؛ الوصف والحوار ، يقول في المقطع الأول من القصيدة :
" آلاف اللوحات
على الحائط الأزرق الطويل
عيونها المنفتحات
تحدق بي
تسمّرتْ أحداقها في معطفي
وآلاف الأيدي
تلوح لي
تقول لي :
( نحن هنا في يوتوبيا
أسرة واحدة
فلا تشتر منا شيا ). " ([8])
عين الشاعر الراوي تجول في أمكنة الرسام ( اللوحة والمتحف ) تتحرك وتسرد . وهنا يحرك الشاعر القصيدة سرديًا لتجول في معية المتحف المكانية ، يربط بين الشعر والرسم ويجعل الشعر يتسيد المكان والحركة ، يقول في المقطع الثاني :
" وهناك ..
في آخر الحائط الطويل
على حافة الجدار
طفلة صغيرة معلقة
عيونها مموسقة
كأنها مخلوقة ناطقة
تسلقت عيناي إليها الجدار
وجدتها تضحك في فرح
كأنما أعينها قوس قزح
وضحكها الصامت في ذلك النهار
خشيت أن يحطم الإطار
خشيت أن يخترق الجدار " ([9] )
ها هي بطلة الموقف طفلة صغيرة عيناها مموسقة ولهما ألوان قوس قزح ، ترن ضحكتها على الرغم من الأطر والحصار . هذه الصغيرة المعلقة تفتن الشاعر، فيروح في المقطع الثالث يحاور صاحب المتحف العجوز حول بيع اللوحة التي تحتويها :
" ورحت أسأل صاحب المتحف العجوز
كم تريد ثمنًا لها ؟
لهذه الطفلة الصغيرة
كم تريد ؟
فقال لي صاحب المتحف العجوز
كأنما في صوته حجار
كأنه ممزق الأوتار
قال .. لا .. لن أبيع
هذه الطفلة الصغيرة
لا .. لن أبيع
حتى ولو أعطيتني
كل ما في العالم ..
من كنوز
لماذا ؟
.. .
لماذا ؟
لأنها صورة الربيع
ربيع شبابي
الذي دفنته
ثلوج الصقيع ".([10])
هكذا تنتهي هذه الزيارة اللغوية أو السياحة الشعرية في متحف موريس . تنتهي هذه القصيدة /الحكاية ببساطة ظاهرة ، لكن هذه البساطة تخفي وراءها مغزى الشاعر ورؤاه. فهل الشاعر يود فعلاً أن يقص علينا قصة إعجابه بلوحة الطفلة في المتحف ؟ صحيح أن القصيدة الموقعة سنة 1959م تحيل إلى فترة شعرية انتعشت فيها بعض المحاولات الشعرية المنتمية إلى الرمزية وعكست بعض نصوص تلك المرحلة ضحالة الرمز وبساطته ، لكني أرى أن محمداً الرميح يفتح من وراء هذا المعنى المباشر نوافذ وأبوابًا إلى رؤى وأبعاد أعمق مما يوحي ظاهر النص. تؤكد ذلك عدة أمور مـن بينها ( نحن هنا في يوتوبيا) ([11]) فهي جملة شعرية تمثل مدخلاً مهمًا للقصيدة حتى وإن جاءت في منتصفها ، وهي تتعارض ظاهريًا مع العنوان ، فاليوتوبيا التي تعني – فيما تعني – اللامكان تنهض في قلب قصيدة كلها محاصر بالمكان، فليس ثمة مكان أكثر محاصرة من المتحف . إنه محاصر بمكانيته وتشدد حراسه ، ثم هناك في الداخل اللوحات التي هي نفسها محاصرة بالأطر ، إنه الحصار المضاعف : مكان داخل مكان داخل مكان : المكان المرسوم في مشهد اللوحة، ثم مكان اللوحة واللوحة نفسها وقد وضعت في إطار، ثم المتحف الذي يحوي المكانين معًا، وعلى مسافة منهما يقف الفنان .
ثلاث خطوات :
مرور الشاعر بالمدرك الحسي في المتحف حسب متوالياته المكانية التي رشحها وعيه الشعري اقتضى أن يقسم قصيدته إلى ثلاثة أقسام، وعبرها سرد حدثًا وموقفًا أحاله إلى قصيدة بينها وبين القارىء ثلاث خطوات !!! ثلاث خطوات تفصل الفنان عن مغزاه وعن مغزى الفن ورسالته . وأود هنا أن أذكر القارئ بذلك الخلاف الفلسفي والجمالي الذي نشب بين أفلاطون وأرسطو عن دور الفن ووظيفته وقيمته وتلك الحجج الابستمولوجية ( المعرفية ) الشهيرة التي احتّج بها أفلاطون زاعمًا إن الفنان يبعد عن الحقيقة ثلاث خطوات ؛ لأنه يحاكي وينسخ عالمًا هو في الأساس نسخة عن عالم المثل([12]). ترى هل كان الشاعر محمد الرميح يحس بأزمة المحاكاة أمام اللوحة ؟ وهل كان مجرد محاكٍ ؟
الجملة الشعرية (نحن هنا في يوتوبيا ) تقول لنا شيئًا عن الفن ، فكل اللوحات المسجونة في المتحف والمحاصرة بالأطر تتحرر من حصارها، تُعلن أنها في يوتوبيا متحررة في اللامكان . والطفلة في لوحتها في منتصف القصيدة تكسر الإطار وتكاد تهد الجدار بضحكها الصامت ، ضحكها المُخَلّد في مشهد اللوحة يخترق الصمت والحدود .لا شيء يسور الفن ويحاصره إذاً . هذا جزء من مقولة النص ، والقصيدة هنا أيضًا – بوصفها نوعًا من الفن – تصرخ من قلب المكان لتحرر القول. وقفلة القصيدة تقول شيئًا مهمًا مؤداه : الإنسان ( العجوز حارس المتحف حارس الفن وربما أحد صناعه) يشيخ ويفنى، والفن يبقى غضًا خالدًا ( اللوحة لوحة الطفلة التي تحيل إلى ربيع الفن الدائم وإلى شباب الفنان وحيوية موهبته ويفاعتها ).
القصيدة تتعمد قول ذلك والشاعر يريد أن يقول : للفن مهمة تحرير العالم وإنقاذه ، وهو طوافة العالم للتحرر من أسر المكانية البغيض ومن الواقع ليسري بنا نحو العالم الأجمل والأكمل نحو يوتوبيا . ولذلك فالقصيدة التي أنطقت اللوحات ونقلت مشاعر لم تبل من طول الحصار ، الشاعر الذي حرر الضحكة ، وجعل الطفلة تهد الجدار يمنحنا الإشراق والحرية والحبور ، فندخل معه ومع الطفلة في حركة ا لصيرورة والتحرر والفرح . لا يوجد معنى مباشر أو خطابي هنا ، لكنه يسوق معانيه على بساطتها وعمقها معًا لينقل إلينا لا تأمله البصري للوحة وإنما أيضًا تأمله الباطني وأثر الفن فيه ، هذا الأثر الذي يعكس وعيه وإيمانه بالشعر وبالفن عمومًا كمنقذ للعالم ومحرر له من الحصار والأسر .
هذا الفرح الذي يغمر الشاعر إذ تغمره به اللوحة وتمنحه إياه نشوة الصوت المموسق والضحكة التي تعبر بؤس العالم وأطر الحصار يمكننا أن نلمحه أيضًا في خلفية مشهد الشاعر الذي يوقفنا نحن كمتفرجين عليه ، إنه مغمور بفرح آخر يخصه هو : أن يحرر قصيدته وتأمله الباطني ونشوته إذ ينتهي من هذا ويوقع اسمه في نهاية قصيدته كما يوقع الفنان على لوحته .
هذا الاعتزاز والاعتداد والأنفة التي يملكها الفن وتملكها البصمة الخاصة بالفنان تجعله يدرك قيمة ما يفعل ، إن هذا الفن رمز لمراكز الحيوية والقوة التي تمنحه طاقة الإبداع ، ولذلك تبرز هذه الأنفة إزاء التسليع والبيع . الفن مكانه المتحف ، والإبداع فورة ونشوة ويفاعة في الروح كالربيع والشباب الذي لا يعوض . حارس المتحف يرفض بيع اللوحة المعادل لربيع شبابه الذي دفنته ثلوج الصقيع ، ويجعله ذلك يزداد شراسة في حراسة المتحف ، كما يتمسك كل فنان أصيل بالقيم الجمالية للفن . والشاعر مثلما نصب الفنان لوحته في المتحف ورفض بيعها يكتب قصيدته ويعلقها في ديوانه (متحف القصائد ) ، ولست أظن أنه من قبيل المصادفة أن الديوان الذي يعلق فيه الشاعر قصيدته عنوانه ( جدران الصمت ) ؛ فللديوان جدران كجدران المتحف، وهي مساحة للتأمل والنظر لمن يفتح دفتي الديوان ويسعى للتجوال في متحفه .
إننا إذًا كقراء ندخل في دوائر متداخلة في المكان من خلال ديوان الشاعر نقف معه في المتحف متحف موريس ، ونتأمل معه المفارقة التالية: الحارس يرفض بيع اللوحة فهي ما بقي من ربيع الشباب، وهي الأثر الباقي والخالد من الفنان حيث منشئ الفن يشيخ ويفنى ويبقى ما ينشئه من أثر فني عصيًا على ما يهدمه الزمن. وهكذا متحف الشاعر وقصائده ، فعلى مسافة أكثر من عقدين من الزمن اللذين يفصلاننا عن وفاة الشاعر محمد الرميح هاهو متحفه (ديوانه) وتحديدًا هاهي قصيدته تتوهج تحمل قلقه ورؤاه حول شباب الفن وخلوده واستمراره . وهو ما يوحي إلينا كقراء بأن الفن يجسر الحياة لتعبر وتبقى.
إذًا ثمة أكثر من وعي هنا: وعي الشاعر بلوحة الفنان ، ووعينا كقراء بوعي الاثنين. وهذا المنظور المضاعف يجعلنا نقحم علاقة المدرك البصري إذ يعاد تشكيله ضمن فضاء بصري آخر مقروء كالقصيدة ، إنه وعي دلالي يعيد الرؤية في المدركين كليهما بأبعادهما وأطرهما المكانية وبما لا يمكن إدراكه ،بالرؤية وبالرؤيا معًا. وذلك يبدو أشبه بتبخير للمكان للتصاعد به إلى دلالات يوتوبية لتناوش الحلم والخلود. فهل نجح الشاعر في أن يحتفظ بقصيدته وينتشلها من تيار الزمن وهل نجح مثلما نجح الفنان بأن يحتفظ بلوحته ؟ وهل كان ثمة لوحة أصلاً ؟ وهل يمكن أن يكون الشاعر قد خدعنا بتخيل وجود لوحة؟
يحسن ألا ننسى أن القصيدة / الحكاية بأحداثها وشخصوصها وخاتمتها المفتوحة على قلق كبير هي من صنع الشاعر . نعم قد تكون ثمة لوحة مثلها في متحف ما استثارت وعي الشاعر ، ولكن الشاعر حول ذلك إلى نص يحاول أن يقاوم أسر المكان ويتحرر من ضواغط الرؤى والأفكار ويعكس همًا يتمحور في إشكالية الفن والمكان والزمن.
إن الوعي بالوحدة في الفن والجمال يمكنه أن يقاوم الإحساس بالفناء المرتبط بالمادي والمتجسد ، ويمكنه أن يمنح إحساسًا يقاوم الزمن. بعض ما فعلته اللوحة أنها منحت تجميدًا أو تخليدًا لربيع لا يشيخ ، وما يمكن أن تفعله القصيدة أن تفتح إطار اللوحة فتنسرب في الزمن ، وتحرر الضحكة والحركة لتصب في نبض الحياة ، وبعض ما يمكن أن تفعله القصيدة من بعد في وعي القاريء أن تمنحه إحساسًا بالتحرر والحيوية والراحة إذ تدمج وحدة المكان (اللوحة) بالزمن (حركة القصيدة) .
إن تحرك الشاعر في المتحف لا يتبع تعرجات الفن فحسب، ولكنه يضمنها القصيدة ثم يجعلها تمضي بالمشهد نحو السرد في خط متطور ومطرد يكشف وعي الشاعر المتهيج جماليًا ، لكنه لا يكشف منشأه ، أو بعبارة أخرى يخفي علته . فلم يهتز الشاعر وتتوقف حركة القصيدة ويختمها عند احتماء اللوحة بذاتها كرمز لما لا يمكن استعادته إلا بتثبيته !! ما الذي يكسبه الفنان ويخسره الشاعر ولا يمكنه مثله أن يحتمي بلوحته ، وما الذي يريد الشاعر أن يسترده أو يستبقيه أو يثبّت لحظته ؟ وهل تبقى اللوحة / القصيدة معلقة على ( جدران الصمت ) أم سينجح قارئ ما في تحرير ضحكتها وموسقة صوتها مثلما نجح الشاعر وهو يتأمل لوحة الفنان أن يمنحها جسرًا للحركة والحياة وإن في يوتوبيا متخيلة !!
مثل هذا الوعي المركب والمضاعف إذ نمر عبر الشكل إلى الدلالة هو ما يمكن أن يشعر به القارئ ، وهذا جزء من تقنية الشاعر الفنية إذ يدخلنا في تلافيف مكان داخل مكان داخل مكان ، ويخرجنا بوعي متراكم مضاعف جذره وعي الفنان بمشهد لوحته مضاف إليه وعي الشاعر بوعي سلفه مضاف إليه وعي النقد بما يقرأ ، ويختم بمسافة المنظور الذي من خلاله يتأمل القارئ وعيه بما يصل إليه من أطياف وأصداء وألوان بعيدة للوحة لم تبهت ألوانها في متحف موريس أوتريللو.
وبعد ، هل أسرفت في المنظور الذي تأملت به لوحة محمد العامر الرميح ؟ لا أظن ، وأحسب أن الشاعر قد تقصّد أغوارًا عميقة وهو يصوغ نصًا ظاهره البساطة غير مثقل بالحمولات الرؤيوية والأبعاد الوجودية القلقة، ومن خارج النص ( نص القصيدة ) أدعم هذا بعبارة قدم بها الشاعر لقصيدته ينقلها عن سلفادور دالي افتتح بها الشاعر كمدخل للقصيدة يقول : " الشيء الأكيد الذي أكرهه على كافة أشكاله هو البساطة " . والحق أني حينما حللت هذا النص معتمدة على نص القصيدة كما هو في الديوان ، لم تكن العبارة المنسوبة إلى سلفادور دالي في عدتي النقدية ، فهي ليست موجودة في الديوان ، ولكني بعد أن فرغت من التحليل وعدت لتوثيق بعض المعلومات السيرية عن الشاعر وجدت هذه العبارة في مستهل القصيدة التي نشر نصها الأستاذ عبد الله بن إدريس في كتابه شعراء نجد المعاصرون ، أذكر هذا لأن هذه مفارقة مثيرة بالنسبة لي كناقدة ، فهذه العبارة الاستهلالية التي حذفها – متعمدًا – محمد عامر الرميح من ديوانه تعود رغمًا عنه عبر التحليل ، وتكشف تعمد العمق والتركيب وتعقيد الدلالة عبر شكل شعري ظاهره السهولة والبساطة . إنه مره أخرى الوعي بالشكل إذ يجبرنا أو يقسرنا إلى العبور نحو المعنى والدلالات القصيا ، والفنان والشاعر والناقدة والقارئ من بعد كلهم داخلون في لعبة تحرير الشكل ، أيعود ذلك لأننا كبشر – انطولوجيا (وجوديًا) نسعى رغمًا عنا نحو منطق الوجود وأنسنة جوامد الأشياء ؟ ربما .
المصادر والمراجع :
- أرسطو
كتاب أرسطو طاليس في الشعر تحقيق د. شكري محمد عياد ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة 1993م ) .
-ابن إدريس ، عبد الله
شعراء نجد المعاصرون ( الرياض ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ط. الثانية 1423هـ / 2002م ) .
-أفلاطون :
جمهورية أفلاطون ترجمة ودراسة فؤاد زكريا ( القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،سنة 1974 )
- بدوي ، عبد الرحمن
1- الموسوعة الفلسفية ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط. الأولى 1984م).
2- ملحق موسوعة الفلسفة ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط. الأولى 1996م ) .
- ديتش ، ديفيد
مناهج النقد الأدبي بين النظرية ولتطبيق . ترجمة محمد يوسف نجم ( بيروت دار صادر سنة 1967م ) .
-الرميح ، محمد العامر
جدران الصمت ( بيروت ، منشورات مجلة الأديب ، ط الأولى 1394هـ / 1974م )
-روجرز ، فرانكلين .
الشعر والرسم . ترجمة مي مظفر ( بغداد ، دار المأمون للترجمة والنشر ط. الأولى سنة 1990م ) .
-الصوينع ، عثمان
حركات التجديد في الشعر السعودى المعاصر ( الرياض [ المؤلف] ط. الأولى 1408هـ/ 1987م )
- مجموعة من الباحثين
مختارات من الشعر العربي الحديث في الخليج والجزيرة العربية ( الكويت ، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ط.1996م).
في متحف موريس أوتريللو
(1)
آلاف اللوحات
على الحائط الأزرق الطويل
عيونها المنفتحات
تحدق بي
تسمّرتْ أحداقها في معطفي
وآلاف الأيدي
تلوح لي
تقول لي :
( نحن هنا في يوتوبيا
أسرة واحدة
فلا تشتر منا شيا )
(2)
وهناك ..
في آخر الحائط الطويل
على حافة الجدار
طفلة صغيرة معلقة
عيونها مموسقة
كأنها مخلوقة ناطقة
تسلقت عيناي إليها الجدار
وجدتها تضحك في فرح
كأنما أعينها قوس قزح
وضحكها الصامت في ذلك النهار
خشيت أن يحطم الإطار
خشيت أن يخترق الجدار
(3)
ورحت أسأل صاحب المتحف العجوز
كم تريد ثمنًا لها ؟
لهذه الطفلة الصغيرة
كم تريد ؟
فقال لي صاحب المتحف العجوز
كأنما في صوته حجار
كأنه ممزق الأوتار
قال .. لا .. لن أبيع
هذه الطفلة الصغيرة
لا .. لن أبيع
حتى ولو أعطيتني
كل ما في العالم ..
من كنوز
لماذا ؟
.. .
لماذا ؟
لأنها صورة الربيع
ربيع شبابي
الذي دفنته
ثلوج الصقيع 1959م
[1] - لسنج Lessing ناقد أدبي وشاعر وفيلسوف ألماني ولد في 1729م ، واكتسب الشهرة في البداية لتأليفه مسرحيات كوميدية متأثرة ببلونس وتيرانس المؤلفين اللاتينيين المشهورين لكنه صاغها بأسلوب عصر التنوير . ثم اكتسب شهرة لاحقة بسبب آرائه ومؤلفاته في الفلسفة . ينظر عبد الرحمن بدوي ، الموسوعة الفلسفية ( بيروت ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر . ط . الأولى 1984م ) ج 2/ 359-361 .
[2] - المصدر السابق ج 2/359 .
[3] - ينظر فرانكلين . روجرز . الشعر والرسم ، ترجمة مي مظفر ( بغداد ، دار المأمون للترجمة والنشر ، ط . الأولى ، سنة 1990م ) ص 11.
[4] -المصدر السابق ص 11 -12 .
[5] - المصدر السابق ص 15 . .
[6] - الشاعر محمد العامر الرميح شاعر سعودي ولد سنة 1348هـ ، تخرج من القسم العالي من دار العلوم الشرعية واشتغل بالتجارة والأعمال الحرة ، ثم التحق بالوظائف الحكومية وعمل رقيبًا صحفياً ومديرًا لمراقبة المطبوعات بالرياض . ثم عمل في السفارة السعودية في بيروت . نشر معظم إنتاجه في المجلات الأدبية كمجلة ( الأديب ) اللبنانية ، له من الآثار المطبوعة ديوان ( جدران الصمت ) و( أنا ) و ( الليالي الحمراء ) يصنفه الدارسون ضمن التيار الرمزي ، ويربطونه " بألبير أديب " . ينظر عبد الله بن إدريس ، شعراء نجد المعاصرون ( الرياض ، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود . ط. الثانية 1423هـ - 2002م ) ص 145. ذكر الدكتور عثمان الصوينع في كتابه حركات التجديد في الشعر السعودي المعاصر ( الرياض [ المؤلف ] ط.الأولى 1408هـ / 1987م ) ج2 ص 464 أن الشاعر توفي سنة 1398هـ على حين يذكر مؤلفو كتاب مختارات من الشعر العربي الحديث في الخليج بالجزيرة العربية (الكويت ، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري ط . 1996م ) ص 322 ، إن الشاعر توفي سنة 1400هـ / 1980م .
[7] - محمد العامر الرميح ، جدران الصمت ( بيروت ، منشورات مجلة الأديب ط. الأولى 1394هـ - 1974م ) ص 47 -52 .
[8] - ا لمصدر السابق ص 47-48.
[9] - المصدر السابق ، ص 48-49
[10] - المصدر السابق ص 50 -52
[11] - يوتوبيا UTOPIE مشتقة من ( Uo ) بمعنى لا ، و( TOPAS .) بمعنى مكان ، وتعني الكلمة في مجموعها : ليس في مكان ، وأسقط الحرف ( O ) وكتبت الكلمة باللاتينية ( UTOPIA ) ، وصارت تستخدم توسيعاً للدلالة على مكان خيالي يتحقق فيه الخير والجمال ، ويتحرر من الرذائل والشرور . وأول من استخدم هذه الكلمة وجعلها عنواناً لكتابه توماس مور ( 1478- 1535) لمزيد من المعلومات ينظر ملحق موسوعة الفلسفة لعبد الرحمن بدوي ، ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الأولى 1969م ) مادة يوتوبيا ص 374 .
[12] - ينظر أفلاطون ، جمهورية أفلاطون . ترجمة ودراسة فؤاد زكريا( القاهرة ، الهيئة العامة المصرية للكتاب ، سنة 1974م ) ، وينظر أرسطو، كتاب أرسطو طاليس في الشعر . تحقيق د.شكري محمد عياد ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1993م ) ، وينظر كذلك دراسة ديفيد ديتش لآراء الاثنين وتحليلها في كتابه مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق ، ترجمة محمد يوسف نجم ( بيروت ، دار صادر. ط. سنة 1967م ) ص 15-86 .