الصفحة الرئيسية
 /  
الوردة بدون لماذا
 /  
رجوع

الوردة بدون لماذا


خلاصة : تبحث المقالة هنا عن الصقر كمفهوم وكرمز للقوة والاستبصار في الفلسفة والنقد والأدب مكشوفًا عن علاقته بالجمال والإبداع والعنف والشراسة.

جزء من عنوان هذه المقالة ( الوردة بدون لماذا؟) مستمد من فصل لهيدجر من كتابه (مبدأ العلة)  (1) وفيه يناقش هيدجر مبدأ العلة فلسفيًا كعادته بالتطواف حول الفكرة والمصطلح  قبل أن ينقض عليهما حيث يورد أبياتًا من ديوان صوفي للشاعر انجيلوس سيليسيوس (1624_1677 ) يقول فيها : "الوردة بدون لماذا ؟ تتفتح لأنها تتفتح لا تهتم بنفسها , ولا ترغب في أن يراها أحد . " ويخلص إلى أن وجود الوردة بدون لماذا  لا يعني أنها ليست بدون علة . فمن وجهة نظر حكمة الصوفي لا ضرورة أن تزود الوردة بشكل صريح بالعلة التي تجعلها تتفتح ، غير أن ما يحصل بالنسبة للإنسان مغاير تمامًا , فحكمة انجيلوس سيليسيوس تأتي من أنه " يفكر في أشياء أشد خفاء , فالعلل التي تجعل الإنسان متعلقًا بالقدر تأتي من وجود العلة , ولذالك فإن هذه العلل سحيقة لا قعر لها ." (2)


تذكرت عنوان هذا الفصل لهيدجر ( الوردة بدون لماذا؟ ) وأنا أفكر بالصقر, الصقر الذي يتردد كثيرًا في أخيلة الشعراء ومفردا تهم , ويتردد كذلك عند النقاد والفلاسفة . وقد لفتت نظري في البداية عبارة استعملها إليوت وهو يتحدث عن الملكة الشعرية عند كولردج وعن المخيلة وكيفية عمل الخيال و التنظير له عنده مقارنة بوردزورث حيث يقول بعد أن أشار إلى اتجاه كولردج إلى قراءة الكتب المتنوعة , وخاصة كتب الميتافيزيقا , حتى أصبح رجلاً تسكنه الأرواح , وتزوره آلهة الشعر _ حسب عبارته _ : "والحقيقة هي أن وردزورث لم تكن له أشباح خلف ظهره كما لم تكن له انفعالات تلاحقه . وحتى لو كان لديه شيء من ذلك فهو لم يشر إليه أولم يعره اهتمامًا , فقد استمر وردزورث يردد موسيقاه الساكنة الحزينة التي تنم عن الضعف حتى حانت اللحظة التي حملته إلى حافة القبر. لم يكن الوحي الذي يغشاه من ذلك النوع المفاجئ والمرعب الذي كان كثيرًا ما يعتاد كولردج ، فهو لم يكن يشعر بالانزعاج من ضمير أو إحساس مفقود ، وكما قال اندريه  جيد في المحاضرة التي ألقاها في جمع كبير في باريس Fait Avoir un Aigle "وهكذا استمر كولردج على اتصال دائم بصقره ." (3)

هكذا يتحدث إليوت عن مصدر القوة والوحي في الملكة الشعرية عند كولردج مستخدمًا مفردة أندريه جيد للدلالة على مصدر تلك القوة رامزًا إليها بالصقر. وسأعود بعد قليل للحديث عن هذه العلاقة الغريبة بين الإبداع والجمال وبين الصقر، لكني أود قبل ذلك أن أتوقف عند الترجمة فالمترجم استخدم كلمة الصقر بدلاً من النسر، وعبارة إليوت الأصلية جاءت هكذا  ((...Coleridge remained in contact with his eagle  "(4) ولعل القارئ الآن يتبين معنى عنوان المقالة الصقر لماذا ؟ فالصقر وعلاقته كمفردة في الجهاز النقدي والفلسفي عند النقاد ، وكمفردة محببة في الاستخدام الشعري هو ما تتناوله هذه المقالة ، ولكن في مطلعها أردت الإشارة إلى هذا الاختيار بين مفردة الصقر والنسر لا على مستوى الترجمة فحسب بل على نطاق واسع من عبارات الكتاب واختياراتهم التي مالت إلى الصقر بدلاً من النسر.

لن أقارن بين الاثنين فكلاهما مشهور بأنه من الطيور الكواسر , ويملك حدة بصر وسرعة في الانقضاض وبراعة في الطيران . لكن تشير الدراسات إلى أن النسر يختلف عن الصقر بأن رجليه ضعيفتان ،وأنه يتغذى على الجيف (5) أما الصقر فلا . ولعل هذا ما يفسر الميل إلى استخدام مفردة الصقر بدلاً من النسر ، ويفسر كون الصقر أو العقاب يعد شعًارا وطنيًا في عدد من الأعلام  والمسكوكات  لبعض البلدان (6). كما أنه رمز ميثولوجي قديم للقوة . (7)

و لنعد إلى مدخل المقالة وعنوانها ,  إذا كانت الوردة تتفتح بدون لماذا ,  فالسؤال عن الصقر لماذا يفرد جناحيه وينشرهما على المشهد الفكري ؟ لماذا يؤثر على المعجم النقدي و الشعري والفلسفي أيضًا كرمز للقوة ومنبع لعمق التأثير , مثلما يفعل في المشهد العسكري والسياسي حيث يرمز للقوة والهيبة العسكرية ؟ أظن أننا لم نبعد كثيرًا عن مبدأ العلة .

إذا كان إليوت قد استخدم كلمة النسر/الصقر رمزًا لمصدر القوة الشعرية عند كولردج ، وكان قبل ذلك قد ربطها بالوحي والأشباح التي تلهم الشعر وبتلك الأرواح الآتية  من العوالم  الأخرى  فهل لنا أن نربط ذلك بالمخيلة وقوة عمل الخيال ؟ تلك القوة التي اعتمد عليها كولردج كشاعر وكناقد أيضًا وهو يضع نظريته في الخيال والتي من خلالها يفسر طبيعة الإبداع الشعري ؟ إذا كان الشعراء يستخدمون مفردة الصقر للإشارة إلى حالة اقتناص الصورة الشعرية , وأحيانًا يتماهون مع الصقر فنحن نرى هنا أن لحظة الرؤيا ولحظات خلق القصيدة تجعل الشاعر يوحد بين القصيدة وحالة الوحي والإلهام وما يصاحبها من عناء أو عنف وبين صورة الصقر. ويبدو الصقر في هذه الحالة وقد توحد مع الشعر لا الشاعر , هذا إذا فصلنا إجرائيًا بين الشعر والشاعر على اعتبار أن الشاعر هو الضحية هنا التي تعاني  من عنف ما يقع عليها !!

 يبدو أنه حدث تحويل لفكرة الرئي وشياطين الشعر ؛ حيث تقدم الفكر الإنساني بها خطوة ليقربها من الواقع المادي لتبتعد عن ميتافيزيقا الجن وشياطين الشعر ؛ لتصبح حالة الإلهام والتلقي مرموزًا  لها برمز ملموس وواقعي (الصقر) ، وتظل مع ذلك محتفظة بقوتها وقسوتها وشراسة انقضاضها وتأثيرها على الشاعر ؟ ولكن مرة أخرى لماذا ؟ لماذا الإصرار على الاحتفاظ بطابع القسوة والقوة والشراسة المصاحبة لهيمنة لحظات الخلق والإبداع وقوة أثرها على الفنان ؟ وإذا كانت حدة بصر الصقر قد استخدمت للدلالة على حدة الشعور والإحساس أو رمزًا للاستبصار الداخلي و الوعي العميق فلماذا ظلت فكرة العنف والشراسة مصاحبة للمباغتة وفكرة الانقضاض ؟

إن الأبيات الشعرية أو المقطوعات الشعرية أحيانًا  التي تتحدث عن لحظات تخلق القصيدة واقتناص الفكرة التي تشبّه تلك اللحظات والحالات بحركة الصقر ومباغتته لفريسته كثيرة في الأدب العربي فصيحه   وشعبيه,وهذا التصور يجعلنا نفكر بأن الفريسة (التي هي في هذه الحالة القصيدة أو الفكرة أو الرؤيا الشعرية ) كائن جاهز مكتمل وموجود, ولحظة اكتشاف الصقر له وانقضاضه عليه لحظة درامية بامتياز، إذ هي لحظة الموت الفريدة أو لحظة الحضور الفريد الذي يحقق ، وهو يموت ، كامل وجوده مكثفًا ومختزلاً لحكمة الوجود.

يبدو أني سبحت آنفًا في لجة التأويل ، وهذا لم يجب بعد على السؤال السالف : لماذا ظلت فكرة العنف والشراسة مصاحبة للمباغتة وفكرة الانقضاض في لحظة تخلق الصور الشعرية أو تخلق مراحل القصيدة ؟ لا أملك إجابة تزعم التحديد و الوضوح ، ولكني اقترح ربط عمل المخيلة وعمل الشعر ومفردة الصقر بما يلي عن علاقة عمل الذاكرة التي تُستجمع لحظة الإبداع . وسأقحم  مفردة الصقر بحمولاتها الدلالية السابقة على نص لهايدجر  وأربطه به , وأزعم أنه ربط وثيق وذو دلالة مفيدة في هذا السياق , حتى وإن لم يخطر على بال هيدجر نفسه , وكتمهيد لهذا الربط أقول :  إن في استعداد الصقر للانقضاض حركة استجماع وتأهب قبل الانقضاض دفعة واحدة , وهو انقضاض يبدو سريعًا وواثقًا ولا يمكن أن يكون كذلك لولا أنه يسبقه هذا الاحتشاد والتجمع والوحدة .  وهذا شبيه  بلحظات الرؤيا التي هي لحظات مكتملة وجاهزة تمامًا مثل تأهب الصقر لتحقيق ما يخطط له . هذا الاستجماع والاحتشاد هو ما ذكرني بعلاقة الفكر والذاكرة في الشعر كما طرحها هيدجر.

 و كلام هيدجر لا علاقة له بالصقر لامن قريب ولا من بعيد , ولكني  أدعوكم لربطه به وبما قلته أعلاه , لأني أحسب أن أحدهما سيضيء الآخر بشكل يكفل لما أفكر فيه حول صورة الصقر أن يتضح أكثر. يقول هيدجر وهو يتحدث عن الحميمي والذاكرة فينا :

" (منيموزين) وهي كلمة يونانية تترجم إلى الألمانية بكلمة تعني ذاكرة , وهكذا يمكننا دون ممارسة عنف على اللغة أن نحافظ على مؤنث الكلمة اليونانية :(منيموزين ) (8) ، ونترجمها بـ( ذاكرة) . وكلمة (منيموزين ) هذه اسم لـ: ( تطانيد) بنت السماء والأرض وخطيبة (زيوس) التي صارت أمًا للفنون في ظرف تسع ليال , وقد أصبح كل من الرقص والغناء والشعر محمولاً في ثدي (منيموزين) الذاكرة . من الواضح إذن أن كلمة  (ذاكرة ) تدل هنا علي شيء آخر غير الملكة التي افترضها علم النفس , أي القدرة على الاحتفاظ بالماضي والإبقاء عليه في التمثل , ذاكرة تفكر في ما قد فكر فيه. فالاسم الخاص بأم الفنون لا يعني (ذاكرة ) بمعنى فعل معين لفكر موجه نحو شيء ما مفكر فيه. فالذاكرة هنا هي تجميع الفكر الذي يظل متجمعًا بانتقاء حول ما كانت له أولوية التفكير فيه لأنه يرغب في أن يكون دائمًا معني به قبل أي شيء آخر. وهذا التجميع يخفي ويحتوي على هذا الذي يجب دائمًا أن يتم التفكير فيه مسبقًا بخصوص كل ما هو كائن ومصرح بنفسه على أنه كان ولا يزال . فالذاكرة بما هي ذكرى منتقاة وموجهة صوب ما يجب التفكير فيه , تمثل الأرضية التي ينبع منها الشعر . والفكر هو المكان الذي ترقد فيه ماهية هذا الأخير ....... إن كل إبداع وخلق شعري قد ولد من الحماسة المفكرة للذكرى ."(9)

أحسب أن فكرة استجماع الذاكرة وتجمعها وتوجهها صوب منبع شعري كما لاحظ هيدجر يمكن أن يكون ذا علاقة وثيقة بما أحاول إيضاحه وتفسيره للكشف عن العلة والسبب الذي جعل الصقر رمزًا للوعي والاستبصار والوحي والقوة الشعرية . إن الصقر رمز قوة ولكنه في الوقت نفسه رمز تفرد وعزلة ووحدة . وهو رمز لمبدأ علة أو علة لحدوث حدث مهم  ومفصلي . إن قوة العلة هي قوة انبثاق للموجود ، وفي الوقت نفسه تفسير له . ولعله من هنا يمكن أن نفسر أن الوحي والإلهام هو مبدأ علة لوجود الإبداع والقصيدة المتشكلة . إنه مجرد لحظة انبثاق تسمح للموجود بأن ينكشف ، وهنا , مع الصقر , مبدأ العلة مربوط بعنف الحضور و مربوط بالقوة والانبثاق  . إنه مرتبط بما هو شرس وكاسر ومنقضٍ  , فلحظة الانقضاض لحظة صارمة لا هوادة فيها ، تسمح لغرض الصقر أن يتحقق بلا تردد . وحينما يحدث فالحدث أو الكينونة الحاصلة حدث لا تراجع فيه ، إنه بمعنى ما قدري . أليس في هذه الشبكة من المعاني والدلالات بعض مما حاول كثير من الشعراء قوله مفرقًا ومبددًا أو مكثفًا ومستجمعًا في لحظة وعي كامل وفادح وشقي ، كلحظة المواجهة مع قدر لا يمكن تحاشيه أوكصقر لا يمكن ردعه عن فريسته .

إن محاولة صنع قصيدة إلى حد كبير تشبه محاولة الوجود خارج الذات . وكما قال هيدجر : "الوجود خارج الذات هو الحضور في العالم . " وإذا كان العالم في الأساس ليس سوى أفق للأشياء أليس من حق الكائن أن يبدو كصقر يحوم في هذا الفضاء . ترى هل كان شاعر مثل إبراهيم نصر الله يهجس بمثل هذا , أو يحوم حوله حينما قال في مقطوعته القصيرة جدًا :

" فضاؤه

تحت جناحيه

حيثما أغفى

ذلك الصقر ."(10)

       وحتى لا أوغل كثيرًا في الحفر والربط والتأويل لن أتوقف عند علاقة فكرة هيدجر عن الذاكرة وعمل الشاعر ومنبع الشعر الذي هو أصل الوجود والانبثاق عنده بفكرة الوحدة الجامعة والفكر الجامع وما يسميه نيتشه القفزة الخطرة ، التي هي مطلب شاق وسامٍ _ لن أتوقف عند خيوط قد تربط الفكرتين معًا وبالتالي تربط فكرة الصقر والانقضاض السالفة بالاثنين معًا ،  ولكن أردت أن أقول أكانت صدفة فلسفية أو فنية أن جعل نيتشه النسر إحدى الشخصيات الرئيسة التي ترافقه في (هكذا تكلم زرادشت)؟ (11) النسر الذي كان مصاحبًا  للبطل ومحلقًا معه وحوله وهو يصوغ حكمته وفلسفته عن الوجود ؟ بالتأكيد لا، ولكني لن أنساق هنا إلى ما لا يمكن الخلاص منه سريعًا إلا بابتسار الأفكار وتشويهها .

      وقبل أن اختم هذه الأسئلة والتأملات والشطحات أيضًا أود الإشارة إلى أنني قد عملت منذ أكثر من عامين بحثًا بعنوان ( الجمال والعنف : البنى التصورية والطقس القرباني ) قدمته ضمن أعمال ندوة  (القيمة ) المنعقدة في تونس في فترة من 4-6 ديسمبر 2003 تناولت فيه عددًا  من الأفكار النقدية والنماذج الأدبية محاولة الكشف عما وراءها من بنى تصورية ربطتْ الإبداع والتفرد والجمال البشري أو الجمال الشعري بالعنف والقتل والموت التدمير . وليس حديثي هنا عن هذه الجزئية عن الصقر إلا امتداد لذلك الاهتمام ، الذي آمل أن أطوره مع البحث السابق إلى كتاب مستقل .

 

 

 

 

 

الهوامش

 

  1. هيدجر، مبدأ العلة ،ترجمة نظير جاهل (بيروت ، المؤسسة الجامعية للدارسات والنشر ط .الأولى سنة 1991م) .
  2. المصدر السابق ص 43-44
  3.  ت , س اليوت , فائدة الشعر وفائدة النقد, ترجمة د. يوسف نور عوض (بيروت دار القلم . ط الأولى 1402 / 1982 ) ص 72-73 .
  4.            T.S. Eliot. The Use of Poetry and the use of     criticism(London , Boston )  P.70
  5.   ينظر الموسوعة العربية العالمية (الرياض مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع. ط . الثانية 1419 هـ  1999 م  مادة    نسر .ومادة صقر , وينظر الموسوعة العربية الميسرة( القاهرة, دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1965 م) مادة   نسر ومادة صقر وينظر لسان العرب ( بيروت, دار لسان العرب د.ت) مادة نسر.
  1.  ينظر الموسوعة العربية الموسعة مادة عقاب.
  2. ماكس شابيرو ورودا هاندريكس, معجم الأساطير,ترجمة حنا عبود( دمشق, دار علاء الدين سنة 1999 م ) ص 123 مادة    حورس , وينظر ثروت عكاشة , الفن المصري ( القاهرة, دار المعارف سنة 1971) ص 190.
  3.  (mnemosyne : طيطانة, ابنة أورانوس وجيا . تجسيد للذاكرة وأم ربات الفنون من زيوس.) ينظر معجم الأساطير لماكس شابيرو  ورودا هاندريكس ص 171 .
  4.   هيدجر , التقنية , الحقيقة, الوجود. ترجمة محمد سبيلا  وعبد الهادي مفتاح. (بيروت , المركز الثقافي العربي ط. الأولى   1995    م ) ص 196-197 .
  5. إبراهيم نصر الله ،شرفات الخريف (بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط .الأولى 1997م) ص 53 .
  6. جيل دولوز, نيتشه ترجمة أسامة الحاج( بيروت, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ط. الأولى  1418 / 1998 م ) ص 47 .