تحدثت في الحلقة السابقة عن سمتي الإيجاز والتكثيف في ديوان (شرفات الخريف) مع تحاشي الغنائية المفرطة والنواح الدارامي.
وبالإمكان ملاحظة هذه السمة عند إبراهيم نصرالله في عدد غير قليل من نصوصه القصيرة جدًا. ففي نص (القناع) مثلاً يقول :
« إلبس
قناعك
كي
أعرفك »(1)
هكذا ببساطة لا تعود الجملة الفلسفية الشهيرة ( تكلم حتى أراك ) ذات حضور فحسب ، ولكنها تحضر بقناعها متوارية خلف جملة الشاعر المشحونة بحس الفجيعة ، إذ لم يعد يعرف الوجه الذي أمامه على وجه حقيقته ، فلكثرة ما لبس النس الأقنعة صار الشاعر يميزهم ويتعرف عليهم حسب أقنعتهم ! هكذا يسوق إبراهيم نصر الله هذه الفاجعة الوجودية ببساطة آسرة ، ويقررها كشيء لا مناص منه نتعامل معه واقعيًا ونتدرب عليه ، حتى إنه يمكن أن يصيبنا التشوش والارتباك لو رأينا وجوهًا أو أناسًا حقيقيين لم تلتصق بإنسانيتهم من الداخل كثافة الأقنعة!!
وإبراهيم نصرالله يعكس رؤى للتعامل مع قضايا الكائن الوجودية والإنسانية فيها من العمق والبساطة الكثير بحيث لا يثقلها انفعال زائد ، أو نواح غنائي مباشر ، وبهذه الطريقة الرؤيوية يجعل القارئ لا يحس بالحياة ثقيلة وجارحة ، وإنما يجعلها شهية للتحدي والرغبة في ممارسة الحياة وعيشها بصعوباتها بلذة المنافسة والحرية . وذلك ما يمنح الإحساس قوة المغامرة وتجريب شيء آخر غير الحزن الشجي والنواح السخي ، يقول في نص بعنوان (امتدادات) :
« لم يحتف القلبُ بالأجنحة
هكذا ... لننام
لم يُربِّ الفضاء امتداداته
لنموت هنا
عزلة
في الزحام .»(2)
هذا الفضاء يُشرع امتداداته نداء للحرية و للتحليق ، يقول في نص بعنوان (حرية) :
« فضاؤه
تحت جناحيه
حيثما
أغفى
ذلك الصقر .»(3)
وهذا التحليق ، بالنسبة للشاعر، في جانب كبير منه يقوم على فتنة الشعر ، والطيران بأجنحة القصيدة . وهو يعرف مثل كل شاعر يعاني صعوبة الخلق والإبداع والرغبة في تحويل دامس التجربة وحالك الوعي واللاوعي إلى ضوء في نفق طويل تقطعه القصيدة لتصل . يقول نص جميل بعنوان (وفاء) ، يماهي فيه القصيدة بالشمعة التي تضئ ورأسها يقطع أو يذوب ، لكنها بذلك العذاب ، وبسببه تحديدًا ، تستدل على الطريق . إن عذاب التشكيل والحلم برحلة الخلود هو ما يصوره الشاعر هنا إذ يقول :
« في ظلمة الليل
ودليلها رأسها المقطوع
ستظل القصيدة تعرف الدرب
الذي قطعته _ غيبًا _
آلاف المرات .»(4)
(1) إبراهيم نصر الله ، شرفات الخريف ص 90
(2) المصدر السابق ص 11.
(3) المصدر السابق ص 53.
(4) المصدر السابق ص156.