الصفحة الرئيسية
 /  
السيمولاكروم 1
 /  
رجوع

السيمولاكروم 1



السيمولاكروم مفهوم يكاد يصبح مصطلحًا.وهو بالفرنسية Simulacre  وبالانجليزية سيمولاكروم Simulakrum وهو لفظ مأخوذ من اليونانية simulacra و تعني صورة عن الشيء. وقد حُمّلت دلالاته في الفلسفة الحديثة معنى الزيف والنسخة السلبية الباهتة .

 

وقد تناولت الثقافة الغربية منذ القديم ، منذ أفلاطون وأرسطو ، قضية الحقيقة والمظهر والانعكاس . وتقدم الحديث في موضع سابق عن كهف افلاطون المشهور حول نظرية  المثل والصور والظلال . ولقد توارثت الثقافة الغربية هذه المشكلة وناقشتها . ولعل الثنائي المشهور المتعلق بالأصل والنسخة يبرز واضحًا في مقولة الأيقونة والسيمولاكروم . فالأيقونة محاكاة للأصل قائمة على فكرة التشابه أما السيمولاكروم فهو النسخة السالبة . وكان الفكر المسيحي في العصور الوسطى قد لامس اللبس والتداخل بين مفهوم الأيقونة والوثن ، واتصل اللبس إلى أن ظهرت في القرن الثامن عشر فئة أو جماعة مناهضي عبادة الأيقونات Iconoclastes  . وهذا الصراع قائم في الأساس على خلفية دينية ترى أن الإنسان صورة عن الله على الأرض . ولكن ظل الوعي الفلسفي، والوعي الديني على نحو أقل وضوحًا يصارع الفكرة القارة وراء هذه المسألة وهي أن ثمة فرقًا بين الكينونة المقدسة والكائن الإنساني . ففكرة الانعكاس أو التمظهر الإلهي ليس ببعيدة في النقاش الفلسفي عن التأمل الانعكاسي للكون وللذات المتأملة في موجدها الأول أو محرك وعيها عبر العقل واللغة واصطدامهما بمسألة الهوية والتناهي . البعد الأيقوني يقوم على فكرة التشابة أو كون الإنسان صنوًا أو صورة مماثلة لله , أما السيمولاكروم فهو النسخة الباهتة أو الزائفة ، وهويته (أي السيمولاكروم) تضمحل مقارنة بالأيقونة. والمسألة على هذا النحو مسألة التماس هوية أوتيقن هوية. فالأيقونة تمتُ بسبب قوي وواضح ،لم تبهت ألوانه محاكاتيًا بالأصل الذي هي صورة عنه , ومسألة الهوية هذه ستفضي ، ضرورة ، إلى مسألة محدودية الكائن وتناهيه .

 

وكل نقاش حول الأيقونة والسيمولاكروم على مفصل الكينونة والهوية والوعي بالذات والتعبير عنها باللغة _ سيستدعي التأمل في تمظهرات الوعي واللغة بوصفهما أيقونة أو سيمولاكرومًا أوبوصفهما أدوات أو محددات لتلك التمظهرات فحسب . ولذلك يتعين أن ننظر» في الاختلاف القائم بين الكائن الإنساني والكائن المقدس . فالكائن المقدس يتميز بحضوره المتواصل ، حضور كليته . ويكمن تفوقه في حقيقة أن معرفته غير محدودة ، ولا يعترضها شيء ولا سقم ولا كلل ولا رقاد . أما بالنسبة للكائن الإنسان تبدو جميع تلك المميزات عبر مقارنته بالكائن المقدس _تحديدات لوعيه . إذ ينطوي تناهي الكائن الإنساني على ذلك كله.«(1)

من قلب ذلك الاختلاف بين كينونة الله _ تعالى _ وبين كينونة الإنسان الذي هو صورة عنه كما تطرحها معظم الديانات السماوية _ برزت تلك المناقشات حول الأصل والصورة ، حول الأيقونة والسيمولاكروم . وظهرت الهرطقات واحتدم الجدل حول تحريم التصوير والتجسيم والنحت واقتناء التماثيل , وكثر الجدل ، في المسيحية والإسلام ، حول الأوثان وما ترمز إليه . وكان مرتكز ذلك الاختلاف في التفريق بين الأيقونة والوثن يعتمد على فكرة العين والنظر والمنظور، إذ الأيقونة والوثن »ضربان لفهم الألوهية في مجال ماهو منظور ومرئي ، أي إدراك ما لا تدركه الأبصار بالأبصار... إن الشيء الذي صنعته يد الإنسان لم يصبح وثنًا ، وبالتالي إلاهًا ، إلا في اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن ينظر إليه ، جاعلاً منه نقطة تثبيت أو محورًا مركزيًا لنظرته الخاصة.. فالنظرة وحدها هي التي تصنع الوثن.«(2). وهكذا » يقوم الوثن كما لوكان مرآة ... تحيل إلى النظرة صورتها ، أو على الأصح صورة مقصدها ، وما لهذا المقصد من مغزى. فالوثن من حيث هو دالة النظرة يعكس لها مغزاها أو مدلولها. «(3)

لكن الأيقونة لا يصنعها النظر, وهي تحفز النظر إلى ما يتجاوزها ، لأنها تحيل _ وفق هذه الرؤيا الدينية _ إلى اللامنظور (الله/المطلق) من خلال كونها صورة عنه على نحو منظور . ولقد رأينا قبل قليل كيف أن الفن التشكيلي في الثقافة الغربية قد أظهر الأسرة المقدسة بوصفهم أيقونات بلا ظلال ، لأنهم صور شبيهة بالله ، وهم ظل له في الأساس . ولأن » الأيقونة تحفز النظرة إلى تجاوز نفسها بأن لا تتثبت على المنظور، طالما أن هذا المنظور لا يقدم نفسه إلا من أجل اللامنظور ، فالنظرة لا يمكن أبدًا أن تستقر أو أن تهدأ ، إذا كانت تنظر إلى أيقونة . وإنما عليها دائمًا أن تعلو على المنظور، كيما تبلغ فيه اللا منظور. وبهذا المعنى فإن الأيقونة لا تجعل اللامنظور منظورًا إلا باستثارة نظرة لا متناهية. «(4).

         وهذا التفريق بين الأيقونة والوثن تمثل في الفلسفة الحديثة في التفريق بن الأصل والسيمولاكروم . واحتل السيمولاكروم في هذه الثنائية في النظرة إليه موقع الوثن الزائف أو الوهم والخداع . وقد تسربت إلى السيمولاكروم تلك المنظومة من السمات السلبية عبر أفلاطون الذي جعل الصور إما صورًا صادقة مشابهة ، أو نسخًا مشوهة مزيفة ، تلك التي سماها سمولاكروم(5). ثم اتخذت المسألة في الفلسفة والدراسات الحديثة منعطفًا يتعلق بالمعقول والمحسوس والمرئي وغير المرئي ، وما يبقى وما يضمحل في مسارات الزمن المشتبكة بتعقيد بالغ مع التقنيات الحديثة ووسائل الصورة وقنوات الإدراك المرئي .

 

الهوامش :

(1) هانز جورج غادامير، بداية الفلسفة . ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم (بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة ط. الأولى سنة 2002م) ص99-100.
(2) القول لماريون نقلاً عن د. محمود رجب الذي نقل مقطفات من أقواله من الفرنسية إلى العربية ضمن كتابه فلسفة المرآة ص 185-186.
(3) المصدر السابق ص 186.
(4) المصدر السابق ص 187.
(5) يعمد بعض المترجمين إلى ترجمة سيمولاكروم بالشبح، والفرق بين المفردتين كبير. والأولى الاحتفاظ بالكلمة الاجنبية مادامت مفردة الشبح لا توفر المعنى الدقيق للمصطلح. ينظر مثلاً ترجمةد.محمود رجب لعنوان كتاب جيل ديلوز Simulacre) (Platon et le بـ (أفلاطون والشبح) ص 182 من كتابه فلسفة المرآة, وترجمته لكتاب متّى المعنون ب (الغريب والشبح) ص 117 من كتابه فلسفة المرآة .