الصفحة الرئيسية
 /  
الروح العارفة بين لغة الجسد وجسد اللغة
 /  
رجوع

الروح العارفة بين لغة الجسد وجسد اللغة


عنوان هذا البحث ( الروح العارفة بين لغة الجسد وجسد  اللغة : مقاربة لهوية النص في القصص القصيرة لمي العتيبي ) وسأبين دلالات هذا العنوان بوصفها محددات للوجهة التي تمضي نحوها الدراسة , ومن خلال إيضاح هذه المحددات أكون قد قدمت ملخصًا للدراسة التي يستحيل عرضها في وقت محدود كهذا .

          مع أن ( الروح العارفة ) تعبير مأخوذ من إحدى قصص هذه المجموعة وهي قصة ( جاثوم ) إلا أن الروح العارفة تيمة مهيمنة على معظم نصوصها , بحيث تبدو أشبه بالمعتنق الرؤيوي الذي تؤمن به الكاتبة. وهذه الروح تملك المعرفة ، وهي في الغالب معرفة روحية شبه صوفية ، وهي معرفة جمالية أيضًا ، وأحيانًا تلتبس بروح الحكيم والمتبصر الذي يرى أبعد من الآخرين ويحدس بالمستقبل . هذه الروح روح عليا قوية ومهيمنة ، وهي روح قائدة توّجه (دون زعيق أو مباشرة) للمطالبة بالحرية والانعتاق والتحقق . وهي روح مناضلة وحامية ، وتمثل رمزيًا روحًا عليا حامية للأمل والمستقبل وقيم الجمال والحق والخير ، وتبدو مع مسحة من الرومنسية روحًا تساير فكرة الخلود وتتبناها ، وتؤمن بأن الفن يملكها .


تبدأ مي قصة ( جاثوم ) ( والجاثوم في عاميتنا قريب من معنى الكابوس )  بقولها : " اسمي جاثوم ، بينما كنت أتصفح منتداكم وجدت هذا اليوزر ( الروح العارفة ) فأدهشني هذا الوصف لأنه ينطبق على شخصي تمامًا . أنا روح عارفة أجوب العالم منذ الأزل ، ولأن الوصف يشبهني على نحو كامل قررت أن استعير هذا اليوزر قليلاً كي أكتب لكم نصي الرقمي الأول ، لا تظنوا أني جاهل بالتقنية الحديثة ، لكني لم أجد ما يشدني لعالم الانترنت قبل الآن ، ولطالما فضلت أن أترك في ذاكرة الناس عني مشاهد حية حيث أتواصل معهم ، ليست الكتابة خياري المفضل على كل حال ! ... ربما تدركون صعوبة أن أتخلى عن أسلوبي في التجسيد التعبيري أو ربما من الأدق أنه تعبير جسدي حين تواصلت مع بعضكم في السابق خلال نومه ! لذا حاولوا  رجاء أن تفهموا كلامي بمعناه المجمل , وليس  عبر دقة التعبير اللفظي . يصنفني بعض المتعالمين منكم بأني هلاوس بصرية أو سمعية بحسب ظهوري ، وإن كنت في الواقع أحب أن أظهر بصريًا وسمعيًا معًا . " (1)

          الروح العارفة هنا جاثوم يعرّف نفسه عبر نفي فكرة أنه مجرد هلاوس سمعية أو بصرية ، ويعيد تأكيد نفسه بأنه الاثنان معًا عبر السمع والبصر ، وسيظهر هذا المعنى نفسه بالانعكاس عبر نصوص المجموعة التي تعتمد اللغة بالتناوب بين التجسيد التعبيري والتعبير الجسدي معًا .

والروح العارفة هنا تتحدث عن الهلاوس السمعية والبصرية التي تمثل جزءًا من هوية الجاثوم المستعير تعريف نفسه من ( يوزر ) الروح العارفة . ولهذه الاستعارة مغزاها ؛ فمثلما يشيع في الشبكة العنكبوتية من روابط الأغاني ( سمعية ) والصور ( بصرية ) التي تمثل اختياراتٍ متبادلة ومتناوبة فإن نصوص المجموعة تستعير صورًا ولوحاتٍ تتصدر النص مع العنوان ، وتواجهُ القارئَ لوحاتٌ ولقطاتٌ فوتوغرافية ومقتطفاتٌ نصية ، وهو ما يكشف عن تأثر النص شكليًا بملامح الشبكة الالكترونية التي تفيض بمثل هذه الاختيارات والمؤثرات السمعية والبصرية .

لكن هذه الملامح في النص ليست مجردَ هلاوسَ سمعيةٍ أو بصريةٍ ؛ لأن الروح العارفة تعيد تعريف نفسها عبر القول إنها الروح التي تنحشر في اللحظة التي يصادف أن يفيق فيها العقل من النوم قبل الجسد ، تقول : " يقولون إنني أظهر للنائم حين يصادف أن يفيق عقله من النوم قبل جسده فاستغل هذه الفرصة وأخرج من العقل الباطن وأبرك فوق أنفاسه ... نعم إن كبس أنفاسكم وظيفة بالنسبة لي ... " إلى أن تقول : "يسعدني أن أكشف لكم أن صراخكم حقيقي ، أعرف أنكم تسألون بعد أن أذهب إن كان أحدهم سمع صراخكم , وأعرف أن الآخرين يجيبون بالنفي ! لكن الحقيقة أنكم صرختم فعلاً , لكني أحتفظ بأصواتكم في أذني لا تتعداني ولا يسمعها أحد غيري ! " (2)

الروح العارفة هنا جاثوم يكبس فوق الأنفاس ، وهو إشارة إلى هاجس التشكيل الفني وهمّ الإبداع , حيث الملكة الفنية التي تسعى, مثل الجاثوم , لاقتناص اللحظات الانفصالية والانحشار في الهوة الفاصلة الملتبسة حينما يفيق العقل قبل الجسد من النوم . ولست بحاجة إلى فك التبادلات بين فكرة العقل وما تمثله وبين الإحالة إلى أن الجسد هو الواقع , وأن النوم يمثل النوم المجازي الوجودي والخبرة الحياتية .

 وفي تلك الفجوات الملتبسة بين العقل والجسد وبين الصحو والنوم المجازي ستقتنص مي عددًا من اللحظات الدرامية والتحولات المؤثرة في حياة شخصيات مجموعتها القصصية كما في  (وخز الدبابيس ) مثلاً إذ تنكشف لحظةُ التعرفِ الدرامية للفنان الذي انحشر في نوم الرتابة والتعود,  وانتهى إلى تفسخ الجمالي فيه وانحلاله وتحوله إلى مجرد مسخِ فنان , تنتقم منه الروح العارفة عبر  لوحة المفاتيح السحرية بقضم أصابعه ، وتنقلُ الشعلةَ المباركةَ إلى فنان شاب , وينبثُ صوتُ المسخ منذرًا الفنان الشاب بأنه في أخريات أيامه وفي لحظةٍ انفصاليةٍ مفاجئةٍ سينحشر  فيها بين اليقظة والصحو , حيث ينسل جاثوم بين العقل والروح والجسد فيواجه لحظةَ تعرفٍ أوديبيةٍ تفضح التفسخات القدرية في شخص الفنان . الروح العارفة في هذه القصة ( وخز الدبابيس ) تختفي وراء ما يقوله النص بشكل مباشر ، وتبدو روحًا خارقة قوية وحامية للجمال والحقيقة ، وهي روح تنتقم , بسبب دور الحراسة هذا , ممن يخونون الرسالة .

 أما الروح العارفة في قصة ( العداني ) فتتمثل في الحكمة والاستبصار في شخص العداني الذي يُجابه بالشر البشري الذي يشلّ تدبيره لحماية القبيلة من المجاعة ، وتجد الروح العارفة أنها رهن التهديد الذي يستبدل جرار الحليب بجرار ماء لا يسد رمقًا ولا يغني من جوع . لكن الوقفة المذهولة للعداني في آخر النص متأملاً تلامعَ الماء في الجرار والقدور لا يُفسّرُ بالهزيمة إذا ما وضع متقابلاً مع ما سعى إليه من دور استبصاري ليحمل البشارة منذ مطلع القصة وهو يطارد فلول السحاب ومنازل الغيث ؛ الوقفة المذهولة تقول فكرة التأمل والترقب وأيضًا التحفز ، فلسنا نجد انحلالاً أو تفسخًا للقوى والروح كما في (وخز الدبابيس) .

والروح العارفة روح تضيق بسجن الجسد وسجن المكان . ولذلك نجد فكرة الخروج من الجسد والخروج من المكان مُلحّة في معظم القصص . في ( حمأ ) ثمة جسد يتشقق وطين بشري يسيل تحت وطأة مرارات الروح العارفة التي تخرج من شقوق الجسد ، وتُظهر نفسها عبر شقوق النص اللغوي . تعلن الروحُ العارفةُ أنفتَها وحريتها ، إذ تصرخ هاربة على وجه النص . الطين المادي البشري يتحول في ( حمأ ) بضغط من الروح العارفة إلى طين النص المتشكل ؛ فالعبور من الجسد البشري إلى الجسد النصي يلوح قويًا وواضحًا في ( حمأ ) حاملاً عذاب الروح والجسد معًا ، وحاملاً في الوقت نفسه قلق التشكيل والتجريب النصي .  

إن محاولة الخروج من الجسد عبر تشققات الطين الغرائبي في ( حمأ ) تُظهر طين النص وقد أنضجته التجربةُ في مواجهةِ البطلةِ للعالم من حولها , كما تُظهر تشكّلَ خبرة الفرح والمرارة وتفاعل وجدانها وخبرتها الشعورية به إذ توالي ملكتها الإبداعية الاحتكاك بذاتها وبجسد العالم من حولها ، وتحاول صقلها عبر فخار اللغة ؛ ليمسي النص (حمأ) مسنونًا هو الآخر , متغيرًا قهرًا وضرورة , مُصَوَّرًا على صورة ما يسيل من سن اللغة وصقل التجربة ( أشير هنا إلى بعض دلالات الأصل اللغوي للصفة (مسنون) التي لازمت مفردة حمأ في القرآن) ومحيلاً في جوهره إلى الموحل الوجودي بالمصطلح الهايدجري . فذاتُ نصِ (حمأ ) مشدودةٌ بتوترها (تشققاتها ) إلى الكشف عن شروعها في كينونة لا يمكنها الإفلاتُ من مواجهة وعيها بذاتها ووعيها بالعالم المتمثل في آخرية لا يمكن أن تتحدد الذات إلا بمواجهتها . وهي المواجهةُ التي غالبًا ما تحجب حقيقة الذات وحقيقة العالم أيضًا , فلا ترى الذات الآخرين ( زوار المحطة ) إلا من خلال جفاف الطين الذي يؤلم الذاتَ تحديدًا أنه لم يجف ، على حين يتعذر على العالم رؤيةُ الذاتِ في انعكاساتها ! وهذا ببساطة لأن العالم ليس مرآة مصقولة ومنصفة ، ولأن الحقيقةَ نسبيةٌ من وجهة نظر ذاتٍ منزاحةٍ عن قطبها مُغرّبةٍ عن طين حقيقي مُشتهى ! ذلك ما يجعل النص يبدأ بالحديث باستعمال مفردة الطين وينتهي إلى استعمال مفردة حمأ , لتمسي هوية قارة وعنوانًا لنص يُساق عنوّة ليقولَ تشققاتِه الخاصة تحت وطأةِ روحٍ عارفةٍ !

والروح العارفة التي تضيق بسجن الجسد وسجن المكان تلوح في كثير من قصص المجموعة مثل : ( فر العصفور من اللوحة ) و ( البنت التي خرجت من الحلم ) و ( الشباك الثامن ) و (يوميات رجل حر ) الخ  .

إن قصة جاثوم التي بدأت بالحديث عنها تعطي مفاتيح لقراءة معظم قصص المجموعة . وأول هذه المفاتيح ـ كما تقدم ـ فكرة الروح العارفة ، ثم مفتاح آخر يتعلق بالالتباس بين الجسد والمكان والتناوب بينهما , ثم الالتباس والتبادل بين لغة الجسد وجسد اللغة ممثلاً في التعويض عن اللغة أحيانًا بلغة الجسد من تعبير بالرائحة كما في قصة ( البنت التي خرجت من الحلم ) أو بالأصابع ولغة الإشارة كما في قصة (يوميات رجل حر ) أو بالحلم , وهو لغة الجسد والروح معًا , كما في (جاثوم) .. الخ ، وبالتأكيد على لغة الحواس التي تحوّلُ اللغةَ المكتوبةَ إلى لغةٍ تستعير من الشم والذوق واللمس إذ تصف جمل الكاتب بأنها مالحة أو باردة كما في ( وخز الدبابيس ) .

      وهذه الروح العارفة الموجّهة لبقية المفاتيح والمتحركة في موج متبادل من الجسد والمكان إلى اللغة وجسد النص تعكس موقفًا إدراكيًا وموقفًا جماليًا ووعيًا وجوديًا بأزمة الذات العارفة والذات الإنسانية ، وهي معرفة متأزمة على مفاصل الاختبار والتجريب للوصول إلى هُويةٍ ما للذات الإنسانية التي تتأزم وتتحول , وللوصول إلى هوية للنص الذي يتخلق ويُجابه ألمَ التجريب والتحقق ونشواته وبهجاته أيضًا .

     فقصة ( حمأ ) تركز على اللمس والبصر في تبادل مرآوي مدهش يُركزُ المشهدَ الإنساني دراميًا في هذه الفاجعة المتبادلة بين إحساس البطلة ببشرتها وتفسخ طينها وسيلانه وبين منظر هذا الوجه في مرآتها ومرآة الآخرين . ومثل ذلك يحصل في  ( يوميات رجل حر ) حيث تخفف الكاتبة هنا من غرابة تفسخ طين الوجه , تلك الغرابة التي رأيناها في (حمأ ) بالانتقال إلى فكرة الإعاقة , فما كان غريبًا وغير بشري وغير معتاد في وجه يسيل طينه في ( حمأ ) يتحول في ( يوميات رجل حر ) إلى الصمم , والنتيجة_ بالطبع _كما في( حمأ ) اختلاف يصنع حاجزًا  , يبدو إلى حد كبير وهميًا , تُحوّلُ فيه المؤلفةُ الإعاقة إلى سمةِ تميزٍ للبطل ؛ فهذا الذي فقد حاسة السمع والكلام حر يلعب باللغة كما يشاء ويسمي الأشياء تسمية خاصة عادلتها الكاتبة بحركات الجسد ولغة الإشارة متتبعة المفردات الدالة على مسميات الأصابع ( خنصر , بنصر , سبابة , ..) إن البطل حر يلعب باللغة كما يشاء , ويمكنه أن يعيد صبغ سور المقبرة . ومجازيًا تبدو اللغة التي قتلها الاستعمال وصارت باهتة لا إبداع ولا روح فيها كالمقبرة التي يحرص البطل الأصم على تجديدها وبث الروح فيها من جديد . غضاضة الطين وحرارته التي رأيناها في  ( حمأ ) تتكرر هنا مع غضاضة اللغة وحرارتها مع بطل مصاب بالصمم نعم ولكنه قادر على إعادة تشكيل العالم كما يريد , وفوق ذلك كله يشعر بالاختلاف والتميز ومن ثم بالحرية والسعادة اللتين يعجز الأصحاء عن تحقيقهما .

     إن التركيز على الحواس يظهر كذلك في ( فر العصفور من اللوحة ) حيث المزج بين حاسة الشم وحاسة البصر وحاسة اللمس , فالفنان الرسام لا يستطيع أن يرسم إلا حينما تختلط رائحة القهوة بألوانه  , حينها يستطيع أن يرسم عصفورًا يفرمن القفص المفتوح , فتتقاطر منه الألوان , وتسيل وهو يطير من غصن إلى غصن ( وهو ما يذكر بالطين الذي تشقق وسال في حمأ ) ومن بلد إلى بلد يفضحه تقاطر ألوانه على طريق الفرار , فيستدل عليه الصيادون والدارسون من علماء البيئة ويقصون أثره  عبر ألوانه التي تسيح وتختلط بالثلج في لوحة مجمدة !

     إن تركيزَ مي على الحواس ,  والمزجِ بينها بعضها مع بعض , ومحاولةَ خلقِ لغةٍ موازيةٍ للجسد ,  وبناءَ النص رؤيويًا على فكرة الروح العارفة  أبرزُ سماتِ هوية النص لديها , تلك الهوية التي كشفت  عن فجوات أو حواجز تمنع الذات والهوية من الاندماج بالعالم  , وهو القلق الذي اندس في نصوص المجموعة , وعكس شعورًا بأزمة تتعلق لا بجملة ذئاب تفترس القيم الأخلاقية للإنسان , ولكنها تتعلق أيضًا بتساؤلات وهلع من الغزو الذي يزحف إلى القيم الجمالية والشكلية للفن والأدب وللنصوص التي قد تجربها هي بنفسها كنوع من الاضطرار إلى المسايرة والتجريب الفني .

          وكان غزو الشبكة العنكبوتية أبرز ملامح القلق والتأثر به شكليًا , خاصة مع التركيز على تكريس الجسد بوصفه غرفة  (تشات) , أو جعل علاقات الذات علاقات قائمة على الاضمحلال السريع كما في مشهد بصري سريع الاختفاء على شاشة الكومبيوتر , حتى إنه في قصة مثل ( جاثوم ) يمكن النظر إليها بوصفها معادلاً موضوعيًا لمصاص دماء نصوص تختلس فيها الروح العارفة اللحظة التي يتخلفُ فيها الجسدُ عن العقل فيمتصُ صرخاتٍ تلتقطها أذنه وحده , ويبدو الأدب جاثوم روح عارفة تتنقل عبر الأزل , تكبس على أنفاس أشخاص ونصوص وتتركهم مذهولين أو ميتين بينما تترددُ وتترحلُ صرخاتهُم عبر الزمن مُكرّسةً فكرةً رومنسية عن خلود الآثار وفناء أصحابها !

 

هوامش :

* قدم هذا البحث في ملتقى( القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا في المملكة العربية السعودية ) الذي عقد في نادي القصيم الأدبي في الفترة من 5-7/11/1429 هـ الموافق من 3-5/11/2008 م

1- مي العتيبي , حمأ( الرياض ,نادي الرياض الأدبي ط.الأولى 1430 هـ 2009 م) قصة جاثوم ص 49 -50

2-  حمأ , قصة جاثوم ص 50-51