الصفحة الرئيسية
 /  
مازال الشجر يسير 2
 /  
رجوع

مازال الشجر يسير 2


في " الشوف شجر" ثمة إشارة إلى كائن يفقد اتصاله مع المدى الممتد ،  ثمة فجوة أو انكسار أو انهيار لمتصل الوجود الممتد إلى الذات ، إنها مرحلة توتر تصف لحظة اللا علاقة أو لحظة العلاقة المشوبة المهددة بالنقيض .


          هنا بالضبط مكمن تماس وتقاطع بين المثل وبين قصة الزرقاء ومثلها ، ثمة تقاطع مشترك يكمن في الانكسار الذي مثل لحظة التصديق أو التكذيب (تصديق زرقاء لفعل رؤيتها وتكذيب قومها لها ) وليس لحظة الرؤية كما هي عند زرقاء , لأن زرقاء ظلت واثقة من فعل الرؤية . إن ذلك الانكسار اللحظوي يُوسع ويمتد في المثل الشعبي ليطال دائرة التصديق ودائرة الرؤية معًا ، إذ تظل تحمل قصة الزرقاء مع التكذيب كامل عنفوانها مع عماها وموتها ، ويحمل المثل الشعبي كامل انكساره بلا مبررات واضحة !! ثمة انكسار بين الإدراك ووجود المدرك والوجود المدرك واللغة وما يتوسط بين ذلك .

          إنها لحظة الانكسار تتنامى من اللحظوي لتغطي الزمن كله وليس مجرد اللحظة ,ولكن لم ؟ أيكون الحس المثخن بالهزائم ، المرتقب من كل صوب لفتة عدو تلتبس بالخضرة ، ومنطق الزمن المتلبس الذي يفضي باللاوعي الجمعي مع سيرورة التوجس الدائم ، التوجس الذي يغلق منافذ الرؤية فتشتجر بدلاً من أن يشرعها _ أيكون ذلك كله قد عمل عمله ؟ ألم يقل المثل العربي : "سوء الظن من الفطن" فلم لا يقول إذًا : " الشوف شجر " والشجر مازال يسير ، وهو قريب من العمى أو يكاد ؟ أليس التوجس الذي يحمله قائل "الشوف شجر" يكاد يكون هو نفسه قلق الأعمى ؟ ومن هنا يمكن بوضح رؤية العلاقة بين قلق العمى وقصة الزرقاء .

          إن المقارنة تفضي إلى التفكير بهذه الدلالات وبهذا التحوير ؛ فبعد أن كانت القصة المثلية هناك مطولة مروية ، استدعاها المثل الشعبي بعد التحويل الدلالي والنفسي إلى عبارة مقتضبة في كلمتين فقط . وهو تحوير يستند  إلى الذاكرة في الوجدان الجمعي ، تلك التي تحتفظ بقصة الزرقاء بمتصلها  ومنهارها ، بعنفوانها وانكسارها .

          هناك كان النظر والمرجع لفرد واحد ولحالة فردية من اختلاط الرؤية ، أو الأصح اتهامها بذلك ، لكن مع الزمن صارت الحالة في المثل الشعبي تقريرًا عامًا صارت حالة جماعية ( راقب الشكل الفني للعبارة وقارن) ترى أسمل حسان بن تبّع عيني الزرقاء فقط أم سمل أجيالاً بأسرها ، يرى قلقها من عقاب الرؤية فتخور وتستكين ؟ نحن إذًا أمام نوع من التخييل المثلي . وهو بحد ذاته موضوع درس مستقل ، لكنه مشتبك هنا بالحديث عن سلب السلطة وعمل السلطة المضاد ، مشتبك كذلك بالحديث عن الفردي والجماعي في الأمثال .

          صحيح أن كل مثل هو في النهاية صوت جمعي ، لكن ثمة سياقات خاصة ببعض الأمثال وثمة أسماء بعينها حافظت على فرديتها على الرغم من جمعية المثل وشيوعه . إنه التوتر الذي يعانيه الفرد بين نزوعه إلى التفرد وبين خاصية من خصائص التكوين الفكري والحضاري لهذه الأمة . تلك الخاصية النزاعة إلى قمع ذلك النزوع الفردي وترويضه ليسير في ركب الجماعة . شيء كهذا يحدث للمثل الفردي يُفسر ويحور ليندغم في مدونة الجماعة !!

          وبعد في هذا الزمن ، في هذا السيل المتتالي على أمتنا من الهزائم والخيانات والشجر المستتر الملتبس بالخضرة الذي يسير في الظلام في هذا الزمن الذي تُسمل فيه عيون المثقف وتكف  قهرًا رؤيته عن سلطة الفعل  ترى فيه متى تعود تلك الرؤية ؟ ومتى يكف سيل الاشتجار ؟ ومتى نتحول ثانية من "الشوف شجر" إلى الاحتفاء بعين زرقاء التي لا تُسمل قط ، والتي إن سُملت تحول جسدها كله إلى عيون تمارس جدلها في اشتباك الوجود ؟!!ا