الصفحة الرئيسية
 /  
مقالة الشغف الأعلى
 /  
رجوع

مقالة الشغف الأعلى


          قصيدة (قرب الوسادة) التي كانت موضوع المقالة السابقة ذكرتني بقصيدة لمريد البرغوثي أيضًا نشرت في جريدة الحياة (17/11/1422هـ - 31/2/2002) بعنوان (ملمس المخمل ملمس الصبار) والقصيدة مذيّلة بتاريخ 1/1/2002 ، وهي تدور حول تيمة الزمن ومروره القسري التناوبي الحولي ، وهي تصوير شعري مكثف يجمع بين مشهدين : مشهد رمي روزنامة العام المنصرم في أول القصيدة ومشهد في آخرها يختمها بحركة تعليق الروزنامة الجديدة ، وما بين الحركتين والمشهدين حشد من اللقطات والمقاطع الشعرية الجميلة .


و على الرغم من شراسة ما تطرحه القصيدة وما تحمله من دلالات كئيبة قريبة من جو قصيدة ( قرب الوسادة ) إلا أن مريدًا كان بارعًا في أن يجاور الأضداد , وأن يجمع لقطات إنسانية حارة ومؤثرة لمزجها بين الحزن والفرح المتلازمين كقدر إنساني .

          وكان بارعًا في الكشف عن هذا التجاور في اللحظة ، تلك اللحظة أو اللحظات التي قلما يمكن للإنسان أن يرى فيها تجاورهما بوضوح خاصة إذا كان يعيش لحظة الحزن بحدة أو الفرح بحدة . وما تكشفه المشاهد الشعرية المتوالية يفسر تجاور ملمس المخمل وملمس الصبار في العنوان ؛ إنها الحياة التي يريد مريد أن يرينا وجهيها ماثلين كما هما في الحياة ، وكما لا نستطيع دائمًا أن نراهما معًا متصاحبين بوضوح . يقول مريد في أول مقطع :

 " هذا ما تستطيع أن تفعله

 هذا ما تستطيع أن تفعله

 أن تلقي بها إلى السلة

 الروزنامة كلها

 بشهورها الأثنى عشر

 ترمي مضارعها في الماضي

 كأنها حقًا غابت

 مع آخر أجراسها

 مباهجها لك  أنت

 وأوجاعها إلى النسيان ."

          هذه النصيحة الافتتاحية التي تلقي في روع القارئ أن بإمكانه أن يرمي بمضارعها في الماضـي ويرمي الأوجاع في النسيان ويقفز إلى المستقبل _ تحمل أنّاتها المبهمة ومخاوفها الجمة من تحصيل تجربة العام المنصرم ، لذلك يفتح مريد روزنامته الخاصة الجديدة التي هي مزيج من المستقبل والماضي  والمضارع ، ذلك الماضي الذي كان خليطًا من همهمة الكوارث وهديل المسرات . ولأنها الحياة هكذا مزيج من الاثنين معًا يبادر مريد بعد مقطعه الافتتاحي السابق . بالاستدراك التالي يقول :

  " لكنك كل ليلة منذ الليلة

 ستسمع أصواتًا في العتمة

 خشخشة أوراق تحملها النافذة

 أيار ، شباط ، آذار ، آب ، نيسان ، حزيران ...

  وقع خطى تريدها  ولا تريدها

 هديل مسرات وهمهمة كوارث ."

          ومن العبث أن يتوقع القارئ للمقطع السابق أن يعدد الشاعر كل شهور السنة ، ولكنه لن يمر مرورًا سهلاً عند توقف الشاعر عن التعداد عند شهر حزيران تحديدًا ، لأنه ندبة في التاريخ والذاكرة ، وهو وجع لا يزول . وربما لهذا السبب وجد مريد أنه من غير المجدي التحدث عن هذه الندبة ؛ فاستعاض عنها بنقاط حذف وإهمال ، وإهمالها مشحون بالدلالة والقول ، فمثلما يقشعر البدن وتقشعر الروح حين تتذكر ما يؤلم قد تقفز فوقه متحاشية النظر فيه أو الحديث عنه ، إنه وقع الخطى التي لا تريدها النفس ، وهمهمة الكوارث التي ما تزال باقية في قلب الذكرى . تلك الذكرى التي ستكون حاضرة في المستقبل الوشيك الذي يفتح الآن مريد روزنامته باستقباله العام الجديد . وهذا ما يفسر لماذا صار المقطع الثالث من القصيدة حديثًا عن الموت بمواكبه المرعبة ، التي يصفها مريد ببرود مدهش محولاً رهبتها إلى أبهة !! وفي هذا المقطع يخبرنا مريد كيف مازال حيًا ، وكيف نسيه الموت دون إحساس بالمسؤولية ، يقول :

 " لتكتشف بعد أن يوقظك انقطاع المطر

 أن الموت نسيك في اللحظة الأخيرة

 دون إحساس بالمسؤولية

 تركك لهذه الحياة . "

 لا شك ـ إذًا ـ أنه منذور لشيء مهم مادام تركه الموت لهذه الحياة ، لا شك أنه منذور لشيء ما يعتقده هو ـ وهذا مكمن من مكامن الجمال في دلالات النص العليا غير المباشرة ـ ويريد إيصاله إلينا إنه وسط الموت منذور للبهجة على الرغم من الأحزان المحيطة . ولذلك يأتي المقطع الشعري التالي ليؤكد هذه البهجة ،كاشفًا ، في الوقت نفسه ، عن تمازج وجهي البهجة والحزن في الحياة ، يقول :

 " ودون أن تستدعي مذاقها

 هاهي تعاودك بهجتك الباذخة

 بهجتك المعتقة

 التي بتمهل ومكر

 خبأت مفاتنها لأجلك أنت ."

          ويمضي في تصوير هذه البهجة المعتقة المخبأة كصاعقة تخمرت إلى أن يصل إلى تلك الصورة المدهشة عن الأوجاع التي تلح على زجاج اللحظة ، لحظة البهجة ، يقول :

 " لأنك في الأصل

 ولولا مئة وجع تلح على زجاجك

 كشحاذي إشارة المرور

 أنت خلقت للبهجة . "

 فها هما الحزن والفرح يتلامحان معًا على زجاج اللحظة الواحدة ويتجاوران في النفس ، ويمكن للشاعر رؤيتهما معًا مُعليًا بإصرار صوت الفرح الذي يكرره لنفسه : أنت خلقت للبهجة ، ولذلك يبدأ المقطع التالي بالإشارة إلى فرح حزين يظهر في الإشارة إلى الضحك ، حيث يلامس النفس ملامسة حزينة مؤثرة على الرغم مما فيه من زهو الضحك ؛ إذ يبدو الشاعر فرحًا بأنه مازال بمقدوره أن يضحك !! هذا الفرح المغمور بالحزن والدهشة معًا إذ يجرب الإنسان قدرته على الضحك مجددًا بعد أن ظن أن فقد تلك القدرة .

          وهنا يصل الشاعر بقصيدته إلى أوج مقاطعها ، فتبدو المرأة رمزًا للبهجة والحزن معًا ، المرأة التي تُقشر أكواز الصبار فتمنح نعومة اللحظة ونعومة الحياة وتمنع القسوة المتلاطمة . والشاعر هنا فيما يماهي بين المرأة والحياة بوجهيها يبادرها باللعب ، فيضع قناع الشيطان على وجهها ثم يرفعه ملاعبًا إياها مرة تلو المرة ليخفي به وجهه ؛ فيضيئان معًا وينطفئان معًا في لعبة واحدة . وهنا تبدو المرأة معادلة للحياة كما هي في وعي كثير من النماذج الأدبية ، لكن التغيير الشعري الجميل الذي يحدثه مريد هنا هو أن الشاعر يعي ، وهو يلعب ، أنه يتعمد وضع قناع الشيطان على وجه المرأة , ويعي تبادل الأدوار في اللعبة إذ يخلعه في دورة اللعب ويلبسه . وجهان إذًا للحياة ، وجهان للمخمل والصبار ، وجهان للقصيدة في تشكلات مقاطعها ، كلها تحيل إلى لعب الشاعر ودوره في إزاحة الأقنعة ووضعها على وجه القصيدة . يقول في أحد المقاطع الكاشفة في الأجزاء الأخيرة من القصيدة:

 " أيها المفرد

 كن شريرًا ماكرًا

 عدواني الحواس

 كما يليق ،

كن كاسرًا ... لأنك أيها  النافر اللذيذ

 احترامًا لروحك

 لابد أن تكذب على هذا العالم . "

          ترى هل سيكذب الشاعر ، ويزوّر العالم ؟ تتوالى مقاطع جميلة يؤكد فيها التلامح بين الأضداد ، ويصور في صورة شعرية فريدة غزالاً هو الشغف الأعلى كما يسميه يركض بين الأضداد يقول :

" وبين الخوف والطمأنينة

 وبين التوجع والفرح

 يلمع جيده  كمرآة على ظهر حمّال

 ولد وبنت

 كأنهما زلازل في منام . "  

          وللقارئ أن يتساءل : ما الذي سيصمد إلى آخر النص من هذه الأضداد ؟ البهجة أم الصبـار ؟ وما الذي سينتهي به المشهد مع تيار الزمن الجارف ومع أوراق الروزنامة المتطايرة التي سبح معها الشاعر ؟ هل سيكذب الشاعر ؟ هل سيزيف العالم ويضع الأقنعة مقنعًا بالبهجة ومحاربًا دون الـصبار ؟ في المقطع قبل الأخير يقول مريد :

" على مخدتك البيضاء

 بين الوردتين المطرزتين

 لوحة متقنة

 لكابوس الجنازات التي ستعود كعادتها

 سوف تعطيك الخجل

 ولن تعطيك البكاء ."

          وبسرعة يبادر إلى إنهاء القصيدة بأن ينصحنا بأن نعلق على المسمار ذاته الذي نزعنا عنه في أول القصيدة روزنامة العام الماضي ـ يطلب منا أن نعلق عليه الروزنامة الجديدة ليختم القصيدة بالجملة التي تنوء بما تحمله من قول غير مباشر يقول : " هذا ما تستطيع أن تفعله " هذه الجملة التي يعقبها صمت مريب يجعل القارئ يعود إلى الجملة نفسها في أول النص بيقين مرتبك . والمدهش أن هذه الحركة حركة نزع الروزنامة ووضع أخرى وتقليب أوراقها شبيه بالحركة التناوبية لنزع الأقنعة ولبسها التي لعب أدوارها في النص ، وهو ما يحيل إلى أن صناعة القصيدة واستمراريتها نوع من الاستمرارية في نزع الأقنعة والزيف قدر ما تستطيع القصيدة أن تحققه . تُرى وقد مضى أكثر من عام على كتابة مريد لهذه القصيدة أيمكن التساؤل ما الذي يمكن أن يفعله الشعراء سوى تعليق قصائدهم في روزنامة تاريخنا الذي أوجز بعضًا منه مريد بين معقوفتي معلقته بين رمي وتعليق !! حركة مرتبكة بين الأضداد واليقين حركة رمي وتعليق تتجاهل يقينها وتطأطئ من أجل أن يمر ما يمر بأضداده كما يريد !!  هذا ما تستطيع أن تفعله ، هذا بعض مما أراد مريد أن يقوله !!