الصفحة الرئيسية
 /  
العنف في المصطلح النقدي
 /  
رجوع

العنف في المصطلح النقدي


دراسة بعنوان ( العنف في المصطلح النقدي : الشعر الخصي نموذجًا ) ضمن الكتاب التذكاري المحكم المهدى للدكتور عبد العزيز المانع صدر في الرياض مركز حمد الجاسر الثقافي ط الأولى 1434ه/ 2013م. من ص201 إلى 222

    شغلت قضية تنوع الأغراض في القصيدة العربية النقاد والدارسين قديمًا وحديثًا. ورُبطت بمسألة تماسك القصيدة وتأثير هذا التنوع على وحدتها . وقد استقر في التقليد الشعري أن تفتتح القصيدة بالوقوف على الطلل ومن ثم النسيب ومن ثم الرحلة ومن ثم المدح أو الفخر ، أو الهجاء . وكان حضور الغزل في مطلعها أبرز ما في بنية القصيدة العربية القديمة وشكلها التقليدي . وإذا لم يفتتح الشاعر قصيدته بالغزل عُد مخترقًا للتقليد الفني . ولذلك سمي الشعر الذي لا يُفتتح بالغزل (شعرًا خصيًا ) , وهو مصطلح لم يُدرس _ حسب علمي _ من قبل أكشف عنه في هذا البحث , وأبين السياق الثقافي والاجتماعي والفني الذي ظهر فيه , وأفسره في ضوء اهتمامي بفكرة العنف الذي رافق النظر والتعامل مع كل جميل ومتجاوز للسائد .


العنف في المصطلح النقدي

الشعر الخصي نموذجًا *

 

 

ظلت قضية تنوع الأغراض في القصيدة العربية تشغل النقاد والدارسين قديمًا وحديثًا ، ورُبطت بمسألة تماسك القصيدة وتأثير هذا التنوع على وحدتها([1]). وقد استقر في التقليد الشعري أن تفتتح القصيدة بالوقوف على الطلل ومن ثم النسيب ومن ثم الرحلة ومن ثم المدح أو الفخر ، أو الهجاء ..الخ([2])

يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعراء والشعراء إنه سمع بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا , وخاطب الربع , واستوقف الرفيق ؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها , وأن الشاعر  " وصل ذلك بالنسيب , فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق ؛ ليُميل نحوه القلوب ,  ويصرف إليه الوجوه , وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه , لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب ... فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه عقّب بإيجاب الحقوق , فرحل في شعره , وشكا النصب والسهر وسُرى الليل ومر الهجير وإفضاء الراحلة والبعير . فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل , وقرّر عنده ما ناله من المكاره في المسير بدأ في المديح , فبعثه على المكافأة , وهزّه للسماح , وفضّله على الأشباه , وصغّر في قدره الجزيل . فالشاعر المجيد من سلك هذه [الأساليب] وعدّل بين هذه الأقسام , فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر ، ولم يطل فيملَّ السامعين , ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد .... وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام ." ([3])

 ومع أنه يفهم من كلام ابن قتيبة أن الغزل والنسيب في أول القصيدة كان وسيلة أو معبرًا للوصول إلى الغرض الأساسي أو بقية الأغراض في القصيدة إلا أن ذلك المعبر تجاوز دوره ليصبح قانونًا ملزمًا فيما بعد . ومع ذلك فإن في المدونة الشعرية العربية ما يربك ما استقر من تقاليد حول بناء القصيدة العربية . فالرثاء مثلاً بدا غرضًا مستقلاً , وبدت المرثية خالصة لموضوعها ، واستهجن النقاد ومتذوقو الشعر أن تُفتتح بالنسيب أو الغزل ، وراح الدارسون يحاولون جمع ما خرج عن ذلك من الرثائيات المفتتحة بالنسيب فوجدوها قليلة ، وتحيط بها شكوك و أسئلة([4]) . وكذلك قصيدة الهجاء التي حققت بعض التجاوزات باختراق التقليد العام للقصيدة العربية . ([5])

 

ويبدو للمتأمل في تلك التنظيرات أن مقدمة القصيدة وافتتاحها بالحديث عن الطلل ودمج ذلك بالنسيب جزء مهم له مكانة أساسية لدى النقاد . ولكن تلك المقدمات تتضمن ما يشبه الروافد والتنويعات داخلها , تلك التي تحدث عنها حازم القرطاجني ضمن ما سماه جهات الشعر ([6]). فالوقوف على الطلل يتضمن تفريعات مثل : البكاء والشكوى ومخاطبة الربع , واستيقاف الصحب , والدعاء للطلول . وذكر الأهل والأحباب الظاعنين عن الديار , التي أمست طلولاً بعدهم , يتضمن النسيب وإبداء لواعج الحب والوجد والشكوى من ألم الفراق والشوق , ويتضمن وصف الأحبة ومرور الطيف , ومن الممكن أن يتفرع إلى الاستطراد إلى وصف الظباء والأيائل وحمر الوحش . وتلك الروافد والتنويعات , وإن بدت للناظر وكأنها أغراض مختلفة , تندرج تحت غرض الافتتاح بالنسيب .كما أن الجزء التالي المتعلق بالرحلة ووصفها ملتحم بغرض الفخر إن كان الغرض فخرًا , وبالمدح إن كان الغرض مدحًا , وبالهجاء إن كان الغرض هجاء ؛ إذ من باب العلو على الخصم الفخر عليه بمقاساة الشدائد وتحملها , ومن هنا يتداخل الفخر والهجاء .

ويُستنتج من ذلك أن المقدمة بما فيها من ذكر للطلل وذكر للأحباب وما فيها من نسيب ووصف للوجد وما يرافق ذلك من أوصاف وتشبيهات مساندة كل ذلك يمثل منظومة واحدة , وتصبح كتلة غرضية واحدة . فإذا تحدث النقاد عن خلو القصيدة من النسيب , وسموا ذلك الشعر الشعر الخصي ) فالمعنى _ غالبًا _ أن هذه الكتلة برمتها يُستغنى عنها للدخول مباشرة إلى الغرض الأساسي .

 إذًا الاستغناء عن المقدمة بما تتضمنه من موضوعات تفصيلية متنوعة تحت غرض النسيب يمثل استغناءً متعمدًا عن جزء اعتبرته الذائقة الجزء الجذاب والمهم في القصيدة , وهذا يتواءم أيضًا مع اهتمام الذائقة النقدية بحسن الافتتاح وبراعة المطلع ..., مما يعني أن الاستغناء عن ذلك يُعد اختراقًا جريئًا وخروجًا تقابله الذائقة والنظرية النقدية بما يستحقه من عقاب وعنف ؛ فتسمي الشعر الخارج عن هذا القانون شعرًا خصيًا  ؛ فيلحقه أو يلحق صاحبه ما يلحقهما من الخزي والنقص !!    

     من الواضح _كما أسلفت _ أن أبرز ما في بنية القصيدة العربية في شكلها التقليدي هو الحضور الضروري والقوي للنسيب في أولها . ولكن ضرورة اختفاء النسيب في أول  المرثية أمر آخر ألزم به النقاد الشاعر ، فماذا يعني هذا ؟ سأرجيء الإجابة عن هذا السؤال لأني أريد أن أربط الإجابة بالتأمل في هذا المصطلح المهم ( الشعر الخصي ) إذ لم أجد أحدًا ممن درسوا المصطلحات النقدية القديمة قد انتبه إليه أو توقف عنده([7]) . وهو مصطلح مهم يضيء هذه المنطقة من التنظير النقدي والممارسة الشعرية في مدونتنا التراثية .

الشعر الخصي :

      كان النقد الدائر حول المتنبي أول المظان التي تتبعت فيها هذا المصطلح , لأن المتنبي كان واحدًا من أبرز من زعزعوا شكل القصيدة العربية ورسومها التقليدية , حتى عدّه ابن خلدون غير شاعر , لأنه لم يتبع أسلوب القصيدة العربية , ولم ينسج على منوالها . وقد وجدت في كتاب شرح المشكل من شعر المتنبي لابن سيده هذا النص المهم :

 " وله أيضًا : [ الطويل ]

إذا كان مدح فالنسيب المقدم                  أَكُلّ فصيح قال شعرًا مُتيّم

من شأن الشعراء إذا أرادوا المدح أن يقدّموا النسيب . هذا هو الأغلب ، حتى سموا الشعر الذي لا يُصدر بالنسيب خصيًا ، حُكي هذا عن أبي زيد . فالمتنبي قد خرق في هذا الشعر عادتهم ، وأنكرها عليهم , وجعل ابتداء شعره مدح سيف الدولة ."([8])

          أما ابن منظور فقد قال في مادة ( خصا ) : " والخصي من الشعر : ما لم يتغزل فيه . والعرب تقول : كان جوادًا فخُصي أي : غنيًا فافتقر ، وكلاهما على المثل . قال ابن بري في ترجمة حَلَق في قول الشاعـر :  

خَصَيْتُك يا ابن حمزة بالقوافي                  كما يُخصى من الحَلَق الحمار

          قال الشيخ : الشعراء يجعلون الهجاء والغلبة خِصاء كأنه خرج من الفحول . "([9])

    واضح من نص ابن سيده ونص ابن منظور أن الشعر الذي لم يتغزل فيه شعر خصي . وهذا المصطلح  يكشف أن هذا النوع من الشعر الذي خلا من النسيب ، وخرج عن التقليد الفني للقصيدة العربية هو على المثل كما قال ـ ابن منظور _ شعر خصي . وهذا القول يكشف عن رؤية جنسية تناسلية حتى وإن كان القول _كما نص _ على المثل .كما يكشف قول ابن منظور أن وصف خصي يلحق الشعر ذاته ، لكن تعليقه على بيت الشعر بقوله إن الشعراء يجعلون الهجاء والغلبة خصاء فهذا الوصف يلحق بأثر القول على الخصم المنافس , الذي يفحمه قول منافسه , ويقعد به عن الغلبة. وكأنما لحقه فعل الخصاء والانقطاع به عن أن يقول قولاً مفحمًا مرة أخرى . ونلاحظ للمرة الثانية هنا ارتباطًا خفيًا غير معلن بين خلو المرثية من شعر النسيب وبين الشعر الخصي . والرثاء يكاد يكون الغرض الوحيد الذي اشترط فيه النقاد خلوه من النسيب ، مما يمكن معه الاستنتاج أن الرثاء شعر خصي ،كما نلاحظ أن الهجاء أيضًا الذي استهجن بعض الدارسين ورود الغزل في مطلعه يبدو منتسبًا إلى هذا النوع من الشعر الخصي ، ولكن أيضًا من جهة الفاعلية لا المفعولية ، كما في حال الرثاء .

الشعر الخصي ومصطلح الفحولة :

        حينما يرد مصطلح الشعر الخصي قد يتبادر إلى الذهن مصطلح الفحولة أو الشاعر الفحل ,  وهو المصطلح المشهور الذي تردد كثيرًا في النقد العربي القديم . ولكن وإن اشترك الاثنان في الخلفية الجنسية الذكورية التي يصدر منها التصور النقدي لكلا المصطلحين فإنه من المهم أن نلاحظ أنه وإن بدا الشعر الخصي للوهلة الأولى مصطلحًا نقيضًا ومقابلاً للفحولة إلا أن واقع الأمر غير ذلك كما سيتضح بعد قليل .

        إننا إذا أمعنا النظر في مصطلح الفحولة نجده قد ارتبط في تصور كل من الأصمعي في كتابه  (كتاب فحولة الشعراء ) وابن سلام في كتابه ( طبقات فحول الشعراء ) بمسألة القوة في القدرة الشعرية ومسألة طول القصائد وكثرتها لدى الشاعر([10]) . وهذا ما يجعل التفكير ينصرف إلى أن الشعر الخصي الذي يُحرم فيه الشعر من الامتداد والطول بفقده مطلع النسيب يمسي بسبب ذلك مهددًا بالقصر والاقتصار على غرض محدد . وبمنعه عن التناسل غرضيًا يصبح مقابلاً للفحولة من بعض وجوه الدلالة لمصطلح الفحولة التي تقدم ذكرها , والذي تركزت أهم معالمه ودلائله على قوة الشاعر الشعرية وطول نفسه في القصائد من حيث الطول والكثرة .

       ولكن إذا تأملنا أيضًا مصطلح الفحولة , عند الأصمعي خاصة , الذي قال عن كعب بن سعد الغنوي إنه " ليس من الفحول إلا في المرثية  , فإنه ليس في الدنيا مثلها." ([11]) _ فإن ذلك يوقفنا عند علاقة الفحولة بالمرثية التي هي أصلاً بلا مطلع غزلي , والتي هي حسب التصور النقدي الآخر شعر خصي بالضرورة !!  وهذا ما يجعل القول إن الشعر الخصي مقابل للفحولة أو أنه المصطلح النقيض موضع تساؤل إن لم يكن موضع افتراض علمي غير دقيق , خاصة مع عدم وضوح الأسس التي ينطلق منها تصور النقاد القدامى لمصطلح الفحولة ([12]) وعدم التحديد الدقيق الضروري لإعطاء أي مصطلح حدوده واستقراره .

       وإذا ما غضضنا الطرف عن خلو المرثية من المطلع الغزلي وعن كون الشعر الذي يخلو من ذلك المطلع شعرًا خصيًا بالإجمال سواء أكان مرثية أم غير ذلك _ فإن ما لا يمكن تجاهله هو اشتراك كل من الشعر الخصي والفحولة في هذا البعد البيولوجي والجنسي الذكوري , ووضوح تسلط الرؤية النقدية بإطلاق أحكام نقدية تسم إما الشاعر ( الشاعر الفحل ) أو الشعر ( الشعر الخصي ) بأوصاف  ومصطلحات تضرب في الصميم الموجع لشاعر مشحون بتصورات جاهزة عن معاني الذكورة والفحولة , تلك التي تُستعار من حقول ثقافية واجتماعية , وتُعكس مباشرة على الرؤى الفنية والنقدية ؛ فتقوم وظائف الخزي والنقص والعار في الحقل الفني والقدرات الشعرية بالوظائف نفسها التي تقوم بها في حقل الخطاب الاجتماعي .

      ولكن من جهة أخرى يبدو مصطلح الشعر الخصي مفهومًا استعاضيًا عن مصطلح الفحولة ؛ فعلى مستوى التنظير المصطلحي من الواضح أن صفة التفرد والإعلاء التي أُسبغت على الشاعر بتسميته فحلاً قوبلت نظريًا على المستوى المتحقق للنص وللشعر , لا للشاعر , بمصطلح الشعر الخصي , وربما بصيغة أقل مجابهة ومواجهة للشاعر ؛ فبدلاً من أن يقال هنا للشاعر إنه غير فحل يتوجه الوصف لنصه وشعره فيقال فيه إنه شعر خصي , ومن هنا نتأمل نوع العقاب الذي أنزلته النظرية بمستخدمها  ؛ فالشعر الخصي هو انعكاس لممارسة محاكاة ناقصة أو غير مكتملة للنموذج أو النسق القار ! وعلى الشاعر أن يحاكي النماذج المقبولة فنيًا والمستقرة كتقليد شعري لا يستهان باختراقه , فإذا ما تجرأ أو عنّ للشاعر اختراقه فالعقوبة مقررة سلفًا بتسليط مفاهيم ذات ارتباط مباشر بالنقص والخزي والعار .        

الشعر الخصي ومفاهيم رديفة :

          ويمكن أن نتأمل علاقة هذا المصطلح بمفاهيم رديفة وذلك من خلال نص مهم لابن رشيق يقول فيه : "ومن الشعراء من لا يجعل للأمر بسطًا من النسيب بل يهجم على ما يريده مكافحة ، ويتناوله مصافحة ، وذلك عندهم هو الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب كل ذلك يقال . والقصيدة إذا كانت على تلك الحال بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء ، وهي التي لا يُبتدأ فيها بحمد الله _ عز وجل _ على عادتهم في الخطب ." ([13])

          يحمل نص بن رشيق عددًا من الكلمات  التي تبدو مرادفة للشعر الخصي ، وهي : الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب ([14]). ويمكن التوقف عند دلالاتها في المستوى اللغوي ذات الارتباط بالحقل الدلالي لمصطلح الشعر الخصي , ولنبدأ بـ :

  1. البتر :

 جاء في مادة بتر في لسان العرب أن البتر استئصال الشيء قطعًا . وفي الأصل البتر قطع الذنب من الدواب . ويمضي ابن منظور في تتبع كلمة بتر حيث أورد أن للرسول صلى الله عليه وسلم درعًا يقال لها البتراء سميت بذلك لقصرها . وأن الأبتر نوع من الحيات يقال له الشيطان قصير الذنب لا يراه أحد إلا فّر منه ولا تبصره حامل إلا أسقطت . وفي الحديث : كل أمر ذي بال لا يُبتدأ فيه بحمد الله فهو أبتر أي أقطع . كما أن الأبتر مصطلح عروضي يتعلق ببحر المتقارب ، كما أن الأبتر هو الرجل الذي لا عقب له ... إلخ ([15])

وفي تلك الدلالات اللغوية للبتر إشارة واضحة إلى العنف القائم على الاستئصال الذي يؤدي إلى الانفصال والانقطاع . وبيولوجيًا في الدلالات الجنسية للأبتر فإن له مصير الخصي : الانقطاع عن الذرية . كما أن فكرة الطول والقصر لها دلالة مهمة هنا ؛ فالشعر الخصي أو الشعر الأبتر الذي يخسر افتتاحية النسيب يتجه إلى غرض وحيد يقتصر عليه ؛ فلا تطول القصيدة ولا تمتد ! كما أنه بحكم الذائقة السائدة يبدو منبوذًا ؛ لأنه مخترق لنظام نُظر إليه بوصفه النظام الأصلي أو الطبيعي للقصيدة , وهو نظام قائم على الامتداد والتناسل النصي .

  1. القطع :

 أما القطع فلن أتوقف عنده ، فالدلالات فيه واضحة ويكاد يلتقي مع البتر , بل إن الأبتر سمي أقطع أيضًا .

  1. الكسع :

 أما الكسع فقد جاء في اللسان : " الكسع أن تضرب بيدك أو برجلك بصدر قدمك على دبر إنسان أو شيء ... ويقال للرجل إذا هزم القوم فمر وهو يطردهم مر فلان يكسؤهم ويكسعهم أي يتبعهم ... وقيل : كسعه إذا همزه من ورائه بكلام قبيح ... وكسع الناقة بغُبْرها يكسعها كسعًا : ترك في خلفها بقية من اللبن ، يريد بذلك تغزيرها وهو أشد لها ... وقيل الكسع أن يُضرب ضرعها بالماء البارد ليجف لبنها ويتَرادّ في ظهرها ؛ فيكون أقوى لها على الجدب في العام المقبل ، ومنه قيل رجل مُكسّع ، وهو من نعت العزب إذا لم يتزوج وتفسيره : رُدّتْ بقيته في ظهره ، قال الراجز :

          والله لا يخرجها من قعره              إلا فتى مُكَسّع بغُبْره ."([16])

    وتعتمد هذه المادة اللغوية  على البعد البيولوجي والبعد الجنسي الذي يحمل إشارات واضحة إلى عنف متعمد مقصود . واللافت للنظر استخدام المفردة نفسها التي استخدمت لضرع الناقة لتعطي الدلالة ذاتها وظيفيًا وبيولوجيًا للرجل إذا لم يتزوج ، بمعنى قطعه عن التناسل والامتداد . أما علاقة ذلك بالقصيدة وبمصطلح الشعر الخصي فلا تحتاج إلى مزيد إضاءة ؛ فهذه الدلالات تصب باتجاه هذا البعد الجنسي الذي يُوقف عمدًا عن دوره الطبيعي ، ويُجابه بعنف واضح تظهر نتيجته ( مجازيًا في القصيدة ) بالتأثير على شكل القصيدة وطولها وانعكاس ذلك على عدم الرضا الفني وعدم التقبل الاجتماعي لها وفق الذوق السائد .

  1. الاقتضاب :

القضب في اللغة : القطع , واقتضبه وقضبه فانقضب وتقضّب : انقطع ([17]). و" قضبت الدابة واقتضبتها إذا ركبتها قبل أن تُراض ، وكل ما كلفته عملاً قبل أن يحسنه فقد اقتضبته ... واقتضاب الكلام ارتجاله ، يقال هذا شعر مقتضب وكتاب مقتضب ، واقتضبتُ الحديث والشعر : تكلمتُ به من غير تهيئة أو إعداد له . وقضيب رجل .. له حديث ضربه مثلاً في الإقامة على الذل .. ويُكنى بالقضيب عن ذكر الإنسان وغيره من الحيوانات ." ([18])

          وعلاقة القطع والاستئصال بيّنة هنا ، وعلى المستوى المجازي الشعر المقتضب هو شعر مرتجل بلا إعداد أو تهيئة ، أي كالدابة إذا ركبت قبل أن تُراض !! وهذا يستدعي بقوة حديث ابن قتيبة عن ترتيب أقسام القصيدة وأهمية الافتتاح بالنسيب بوصفه إعدادًا وتهيئة للسامعين واستمالة لهم([19]). والقصيدة إذ تخلو من ذلك فهي وحشية وحشية دابة لم ترّوض.  إن علاقة الشعر المقتضب بيولوجيًا وجنسيًا بالشعر الخصي قوية على هذا البعد ، خاصة أن مفردة القضيب بدلالاتها الجنسية على العضو الذكوري الملازم لفكرة الخصاء مما لا يمكن إغفاله في هذا السياق ، وعلى الشاعر أن يعي أن الخبرة مطلوبة في إنجاز قصيدته وتحققها الكامل كما يراد لها ، فلا تبدو معاملته للقصيدة معاملة من لا يعرف كيف يركب دابة قبل أن تراض ، ولا يبدو مكسعًا أو أبتر أو خصيًا حال تعامله مع شهوة القول !!

  1. الوثب :

     أجّلتُ الحديث عن الوثب على الرغم من أن ابن رشيق  أورده أولاً ؛ لأبين أن كل الكلمات التي أوردها ابن رشيق بعد كلمة ( الوثب ) تشترك كلها في دلالات العنف والاتكاء على البعد البيولوجي والجنسي للإشارة إلى معاني الانقطاع والعجز . وإذا ما رجعنا إلى مادة وثب في الدلالة اللغوية الأولى سنجدها تتضمن أحد معنيين :

      • الوثب : بمعنى الطفر .
      • الوثب : بلغة حمير القعود ، وقال ابن منظور :" الوثب : القعود بلغة حمير .. وتقول وثبّه توثيبًا أي أقعده على وسادة إذا طرحها لها ليقعد عليها . والوثوب في غير لغة حمير النهوض والقيام ." ([20])

والوثب يقتضي أن يقفز الشخص من موضع إلى موضع ، وفي سياق الحديث عن ( الشعر الخصي ) الذي هو شعر خالص لغرضه بلا افتتاحية النسيب يبدو أن الوثب بمعنى الطفر ملائم للقول إن الشاعر يقفز مباشرة إلى غرضه ، ولكن ذلك يقتضي أن الشاعر كان في جزء من القصيدة ثم وثب إلى آخر . وهذا ليس ما يحدث في الواقع , لأن النسيب في أول القصيدة هو مفتتحها ، وفي حال الشعر الخصي ، فإن خلوه من افتتاحية النسيب هو ما يجعل الشعر خصيًا أو مخصيًا . إذًا أخلُصُ إلى القول إن المعنى المرتبط بالقفز والطفر هنا غير ملائم تمامًا ، وقد يكون في الكلمة تصحيف ، ولعلها من الوتر أي الإفراد ، إذ الشاعر يفرد غرضًا واحدًا ويتجه إليه . كما أن من دلالات الوتر النقص ، قال ابن منظور : " وفي الحديث : من جلس مجلسًا لم يذكر الله فيه كان عليه ترة أي نقصًا . " ... وترت فلانًا حقـه : إذا نقصته . " ([21]) ولعل معنى الإفراد ، ومعنى نقص القصيدة وعدم وجود المفتتح الغزلي أكثر قربًا إلى دلالات المفردات التي أوردها ابن رشيق تلك التي تكشف عن مفاهيم الانفصال والقطع  والعجز والنقص .

الشعر الخصي مقطوع عن ماذا ؟

    مر قبل قليل نص ابن رشيق الذي تحدث فيه عن هجوم الشاعر على غرضه مباشرة دون الافتتاح بالنسيب , وأورد الكلمات التي تصف القصيدة في هذه الحالة , وكلها مفردات مرتبطة بالبتر والقطع كما رأينا . وذكر أن القصيدة في هذه الحالة تكون بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء , وهي التي لا يُبتدأ فيها بحمد الله _ عز وجل _ على عادتهم في الخطب .

      وهذا الربط بين النسيب والتحميد على جهة التماثل أو التشبيه يحمل _ كما أرى _ مبدأ دينيًا يتعلق بالمقدمة الغزلية أو النسيب المربوط بالمرأة , وهو مما يجعل هذه الأنوثة صنوًا (كما تتطلب تماثلات التقابل ) لتحميد الله عز وجل . وهذه إشارة ذات أهمية تتعلق بأبعاد دينية أو وثنية قارة في الوجدان الجمعي حول المرأة والقصيدة والألوهة , وكلها ذات ارتباطات مهمة بفكرة الأصل والامتداد من خلاله .([22])

          إذًا الشعر الخصي شعر مقطوع ولكن عن ماذا ؟ من الواضح مما تقدم من إشارات إلى فكرة الانقطاع عن الشكل التقليدي لبنية القصيدة العربية القائمة على التنوع الغرضي أن مقولة التنوع الغرضي تخفي من ورائها مبدأ تناسليًا خصوبيًا قارًا وراء هذه النظرة إلى القصيدة ؛ فالشعر الخصي إذا انقطع عن المطلع الغزلي حُرم من أن يؤول الشعر إلى ما تحمله القصيدة .

           إن القصيدة التي ينقصها المطلع الغزلي فيها عيب يحيل إلى نقص الفحولة ، إن غياب المؤنث أو الجزء الأكثر ارتباطًا بالمؤنث وهو القسم الغزلي غياب للمذكر الفحل ؛ فغياب المؤنث هو في الوقت نفسه الوجه الآخر لغياب المذكر الفحل . هذا التآزر والتلاحم في اتحاد المذكر والمؤنث وهذا البعد الجنسي العميق الدلالة في المصطلح مع بعد العنف فيه ( الإخصاء ) يحيلان إلى مسألة مهمة تتعلق بالمصطلح من حيث علاقته ببناء القصيدة وتماسكها والتحامها ، وهذا هو البعد الفني في المصطلح , فقد كان يُنظر إلى الجزء الغزلي في القصيدة بوصفه مظهر تفكك , وليس أدل على ذلك من غزارة التوجيهات النقدية المتعلقة بحسن التخلص والخروج , على حين إن النقد بحديثه عن مصطلح ( الشعر الخصي ) يُنفّر في الوقت نفسه من الشعر الخصي ، مما يعني أن الدلالة الأبعد للمصطلح تحيل إلى رؤية نقدية أو ذائقة ترى أن الجزء الغزلي يحقق تماسكًا واتحادًا ، بل توحي بخصوبة النص وتناسله . إن الشعر الخصي مقطوع وناقص ، أما التنوع الغرضي والمطلع الغزلي في القصيدة فمظهر اتحاد واكتمال ومظهر كمال وانتساب إلى الكثرة والجماعة والقبيلة . ومثلما أن المخصي مقطوع عن التناسل مهدد بانعدام الأثر فالشعر الخصي مهدد بأنه مقطوع عن التقليد والإرث الفني الجمعي ومهدد بالنسيان .

        إنه بالإضافة إلى معنى العنف المباشر ( الإخصاء ) نلمح العنف المؤسس على احتكار سلطة السيادة والمصير ، والتهديد بالنبذ خارج مسار التقليد الفني ، وهذا عنف فوق عنف . إنه عنف مركب إزاء اختراق الشاعر لما ارتضته أذواق الجماعة وما تأسس من تقاليد موروثة . وفي هذا إحالة إلى عنف المواجهة بين الفردي والجماعي في قلب البنية والتكوين للمجتمع والفكر العربي .

        إن قصيدة الرثاء التي اشترط فيها الذوقُ والمعيارُ النقدي ألا تفتتح بالنسيب ، وهي شعر خصي بالضرورة  حسب المصطلح ، تجعلنا نفهم لماذا اختير للمرثية أن تكون كذلك ؛ فذلك راجع لطبيعتها الحزينة المتناولة لغرض الموت والفناء ، وهو أبرز وجه موضوعي للانقطاع النهائي عن الحيـاة .  وحينما تقف المرثية في مواجهة الفناء عليها احترامًا للموت والميت ، أن تكون غير مُخصّبة ، وعلى شعر الرثاء أن يبدو مقطوعًا ومخصيًا عن رمز الحياة والتناسل والاستمرار !!

          إن مصطلح الشعر الخصي إذا ما رُبط بقضية التنوع الأغراضي وبقضية وحدة القصيدة أمكننا أن نلمح في الوحدة بعدًا بيولوجيًا ينظر إلى النص بوصفه جسدًا يشبه جسد الإنسان الحي . وهذا يذكر بنص الحاتمي الذي أورده ابن رشيق في حديثه عن القصيدة حيث يقول :

   " من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجًا بما بعده من مدح أو ذم , متصلاً به غير منفصل منه , فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض , فمتى انفصل واحد عن الآخر , وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه , وتعفي معالم جماله ."([23]) وهنا نلاحظ أن الحاتمي شبه القصيدة في تماسكها ووحدتها وضرورة وجود النسيب في مطلعها بجسد الإنسان الذي يجب أن يكون منسجمًا متوازنًا ومتكامـلاً .

          إذًا سمة الكمال يمكن النظر إليها من إحدى الزوايا بوصفها نقيض الإخصاء , فالإخصاء هو منع القصيدة غرضيًا من التوالد والتنامي عضويًا . العضو مخصّب ولابد من ثمرة , القصيدة تحمل بأغراضها المتنوعة إلى أن تصل إلى ولادة غرضها الأخير , أو إلى أن تصل إلى مبتغاها وهدفها الأصلي وهو المتعة . إن متعة الجنس هنا طاغية وحاضرة بقوة في مفهوم الالتذاذ الذي يأتي الإخصاء ليمنع حصوله . السامع والشاعر يلتذان معًا بالمطلع الغزلي . ومبدأ اللذة والمتعة هو الذي دفع ابن قتيبة للتفكير بأن مطلع الغزل والنسيب في أول القصيدة مقصود به التذاذ السامعين به . ومبدأ المتعة الذي يقف البعد الجنسي من ورائه هو في الغالب الذي حرك التنظير النقدي لهذه المسألة عند ابن قتيبة . وقد فرضها عليه ذوقٌ وتقليدٌ وإرثٌ فني متوارث قدّم مثل هذا المبدأ اللّذي تقديمًا بارزًا لا يمكن تجاهله !!

الشعر الخصي والبيت المفرد :

ومع أن بناء القصيدة العربية وفق تقاليد معينة وحسب منوال نموذجي قار يقاس عليه كان من المعايير الصلبة التي وإن تجاوزها بعض الشعراء إلا أنه كان الذوق السائد لصياغة القصيدة العربية وهو ما كان يمنحها صفة الطول أحيانًا والتنوع في معظم الأحيان . وبغض النظر عما أثير حول هذه المسألة من مسائل الوحدة والتماسك إلا أن ذلك لم يمنع مؤلفًا متأخرًا كابن خلدون من أن يخرج شاعرًا كالمتنبي من زمرة الشعراء لأنه لم يتبع أسلوب القصيدة العربية .([24])

والإشارة إلى ابن خلدون مهمة هنا , لا لأنه كان قد أكد أهمية النسج على منوال القصيدة العربية , وعرّف الأسلوب من خلال التأكيد على هذا المنوال ، ومن خلاله ( أي من خلال تعريف الأسلوب ) عرّف الشعر ووضع حده فحسب ، بل لأنه إلى جانب هذا هو أيضًا من استحسن البيت المفرد الذي كلما كان مفردًا في بابه مستقلاً عن القصيدة فهو البيت المستحب الشارد , يقول معرفًا الشعر : " وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى , إذ هو كلام مفصل قطعًا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتًا ، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويًا وقافية ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة . وينفرد كل  بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه وحده مستقل عما قبله وما بعده . وإذا أُفرد كان تامًا في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء , فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته , ثم يستأنف في البيت الآخر كلامًا آخر كذلك , ويستطرد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود . "([25])

ومع أنه قد يعسر الجمع بين الرأيين : الأول المشترط لبناء القصيدة وفق النموذج التقليدي السائد وهو ما يؤدي إلى طول القصيدة وتنوعها أحيانًا ، والرأي الآخر الذي يفضل البيت المفرد الذي يؤدي إلى استقلال البيت وقيامه بنفسه , وهو أقصر وحدة شعرية يمكن أن تتحقق في انفصالها عن نص القصيدة الطويلة ، وهو انقطاع مستحب كما تعكس الذائقة _ أقول مع أنه يصعب الجمع بين الرأيين دون شبهة تناقض إلا أنه يمكن أن يُفسر ذلك في ضوء سيادة ذوق قوي سبق ابن خلدون في تفضيل البيت المفرد بصفته نموذجًا عاليًا لشعرية الشعر , وقد مثّله خير تمثيل ابن رشيق في كتابه العمدة  ، وهو الذي أعجب به ابن خلدون , ونصح بالاعتماد على كتابه ، وابن رشيق يقول في هذا الصدد :

   " ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيًا بعضه على بعض ، وأنا استحسن أن يكون كل بيت قائمًا بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما بعده ، وما سوى ذلك ، فهو عندي تقصير ، إلا في مواضع معروفة ، مثل الحكايات وما شاكلها ، فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هناك من جهة السرد . "([26])

          ومعروف أن استحسان البيت المفرد هو مما ورثه ابن رشيق كذلك عن كثيرين قبله .([27]) إن قضية بناء القصيدة وشكلها التقليدي التي على أساسها بنى ابن خلدون تعريفه  للأسلوب تتصل اتصالاً قويًا بقضية عمود الشعر العربي , وتبدو كأنها تقف في المقابل وعلى الضد من فكرة تفضيل البيت المفرد الشارد المستقل . ولفهم مثل هذا الدمج يمكن أن نرى السبب فيما يتوارى خلف تلك النظرة , تلك النظرة التي كانت تضع حدًا فاصلاً بين الأسلوب النثري الذي يقوم على التماسك والصلة والوحدة ([28]) وبين الأسلوب الشعري الذي وإن حُبذ فيه التنوع الغرضي والطول وحسن التخلص إلا أن أبياته المفردة المستقلة حُبذ فيها باعتبارها الممثلة لروح الشعر الاستقلال والانقطاع !

          إن الوحدة استمرار واتصال ، والتنوع الغرضي استمرار واطراد وطول نفس  , على حين أن البيت المفرد يؤدي إلى القصر والإيجاز الشديد والشرود . إنه شارد من مجموع القصيدة ، إذ القصيدة  تمثل المؤسسة القبلية الجماعية ، والبيت المفرد يبدو مثل فرد خارج مستقل . القصيدة تمثل الثابت المرتهن ، والبيت المفرد يمثل السيرورة والشيوع والحرية والانفلات من أسر القصيدة والجماعة ، حتى وإن كان الذيوع يتحقق عبر الجماعة والقبيلة !!

          ولو نظرنا إلى هاتين المسألتين في ضوء البعد الجنسي لمفهوم الخصاء و مفهوم اللذة في التنوع الغرضي الذي ذكره ابن قتيبة وسايره من بعده كثيرون _ لأمكن أن نتفهم التنظيرات المتناقضة للقصيدة ذات التنوع الغرضي وللبيت المفرد وللشعر الخصي أيضًا . إن القصيدة المتناسلة غرضيًا هي المؤسسة التي تحمي الاستمرارية ( للنموذج فنيًا ) والاطراد التناسلي ، إنها أشبه بمؤسسة الزواج التي تقوم فكرتها في الأساس على غرض استمرار الأسر وإنجاب الذرية . أما البيت المفرد فهو أشبه بالنزوة العابرة ، وهو لذة الشعر المسكونة بالرحيل والشرود . وكثيرًا ما شُبّهت الأبيات الشاردة بالأمثال الشاردة التي لا يُعرف قائلها ([29])، وهنا تبعد المسافة بين القول والقائل بين الفعل والفاعل فتبدو مثل الابن اللقيط !!

          والشعر الخصي في هذا السياق يشبه البيت المفرد من جهة الانقطاع ومن جهة القصر والإيجاز ، فالشعر الخصي مقطوع عن التناسل الغرضي في القصيدة ومن هذه الجهة يشبه ، مصطلحًا ولفظًا ، المُقطّعات التي هي قصائد قصار أيضًا مقارنة بالقصائد الطوال المتنوعة غرضيًا ، وفكرة المقطعات قائمة على معنى البتر أصلاً ، ومن معاني الأبتر ,كما نعرف القصير ، مثلما أن من معاني الخصاء القطع والبتر !!

          ولعلّ القارئ لاحظ في نص ابن رشيق السابق أنه يستحسن البيت المفرد , لأن الأسلوب الشعري مختلف عن الأسلوب النثري السردي الذي يرتبط بالحكايات والسرد . والبعد السردي _حسب ابن رشيق _  محتاج إلى ما قبل وما بعد , وهذا يعكس وعيًا بضرورة التتابع والتوالي السردي والربط الحدثي المتحرك في البعد الزمني .([30]) إن التتابع الغرضي والتنوع الغرضي في الشعر يجب ألا يمتد سرديًا و أفقيًا في الزمن ، لأن الربط بين الأغراض سيكون من نوع مختلف عن الأسلوب السردي المتنامي حدثيًا وزمنيًا باتجاه أفقي . إن للشعر أسلوبه الخاص في الانتقال والربط بين الأغـراض . وهو أسلوب يتعلق بالجانب المفصلي الذي يحكم الربط بين الحلقتين عن طريق حسن الانتقال والتخلص , وهي مسألة مفصلية فنية لا علاقة لها بالامتداد الزمني الأفقي ، فثمة أعراف وسنن تحكمت بآلية الربط والانتقال جعلته قائمًا على الاستقلال , والترابط الفني فيه ذو علاقة بمسائل بلاغية وفنية متحررة من فكرة السرد والبعد الزمني .

      في ضوء ما تقدم يبدو أن البيت المفرد والشعر الخصي يمضيان أبعد وأكثر من القصيدة نفسها في الإيغال بعيدًا عن روح النثر بوصفهما منقطعين أو متحررين من قبضة التكاثر الغرضي والتناسل الشعري . ومن هنا يبدو البيت المفرد والشعر الخصي أكثر وفاء لطبيعة الشعر وجوهره ، أو بعبارة أخرى أقرب إلى أصله ومبدأ نشوئه الذي أُشير في المدونة التراثية إلى أن بداياته كانت تمثل بيتًا أو أبياتًا يقولها المرء بين يدي حاجته([31]).

          وهذه الفكرة الأخيرة ، العود إلى الأصل ، إذا ما ربطت بالرأي القائل إن الشعر في أصل نشأته كان قصيدة رثاء ([32]) تؤكد ما أشرت إليه سابقًا عن العلاقة بين مفهوم الشعر الخصي وبين قصيدة الرثاء من جهة انتمائها لفكرة الانقطاع والموت ، ومن جهة خلوصها لما هي فيه من موضوع واحد ، مركز على بؤرته الشعورية المحددة .

*  *  *  *

 

          وبعد إن هذا المصطلح واضح الارتباط بالجسد البشري  , فالجسد مادي وقابل للإخصاء وذلك تشبيه للقصيدة بالكائن الحي ( وتحديدًا بالإنسان الذكر فالإخصاء مرتبط بالذكورة والفحولة). كما أن هذا المصطلح يمثل خير تمثيل علاقة الجسد بالعنف ، وتحديدًا بعنف السلطة مع النص , إنه رمز لقمع سلطة المؤلف على النص وسلطة النقاد والذائقة الجمعية لما يجب أن يكون في النص , ولذلك فالإخصاء فعل مناهض لحيوية الجسد وتناسل النص . إن حرية الشاعر التي تسمح له بأن يفعل في نصه ما يشاء حرية شكلية أو وهمية ، لأنه مقموع من وراء ذلك بالذائقة التي تدفعه لإنتاج النص الذي يرضي الجمهور والجماعة وإلا حُكم على ابنه (نصه) بأنه خارج شروط المؤسسة فنيًا ونقديًا .

          وكذلك فالنظر إلى هذا المصطلح ( الشعر الخصي ) في ضوء فكرة العودة إلى الأصل تؤكد فكرة القطع عن التناسل التي هي بالضرورة وقف عن الاستمرار في دعم النسب . إن الانقطاع عن الانتساب يعني القطع مع الأصول ، وهذا يعني العود إلى اللاشيء أو العود إلى منبع العدم الأول ؛  أي العود إلى الأصل البعيد قبل خطيئة آدم الأولى ([33]).

          إن الشعر الخصي ، وإن كان لم يتكرس كمصطلح شائع ، إلا أنه مفهوم عالي الفعالية . وهو مفهوم مفتاحي يمثل اللحظة الحدية الفاصلة لتكريس نوع شعري مختلف ومنشطر ، لا تتشكل سماته الاختلافية عن الشعر الأصل إلا بهيمنة فكرة القطع مع مبدأ التناسل . وهو ما يكشف منذ القديم عن رؤية النقاد العرب إلى الشعر والإبداع استنادًا إلى الجانب الوراثي . وهذه الرؤية قريبة مما كشفه حديثًا دريدا في كتاباته عن علم الكتابة ومفهوم التشتيت والاشتقاق البذري وعلاقة ذلك بالأب واللوغوس ([34]).

       كما أن هذا المصطلح في ضوء كل ما تقدم يدعونا إلى إعادة النظر في عدد من المسلمات الشائعة قديمًا وحديثًا عن قضية التجديد ، واختراق الشكل التقليدي للقصيدة العربية ، في الوقت الذي يدعونا فيه إلى تأمل ضراوة السلطة والذائقة وهيمنة روح الجماعة , تلك الضراوة والشراسة التي كان يُجابه بها كل تجديد أو ابتداع أو اختراق . إن التنظير النقدي لما هو مخترق في الوقت الذي هو فيه تكريس للنموذج وللتقليد ، هو في الوقت نفسه إعلان لاعترافه بهذا النوع من التجديد أو الاختراق ؛ إنه وهو يعلن رفض الذائقة له يقرر حقه في الوجود , ويمنحه تسمية أو مصطلحًا هي جواز مروره عبر سلطة الناقد أيضًا !!

 

 

                                                                                                                                                                                           الرياض محرم 1429 هـ يناير 2009 م

 


* هذا البحث جزء  من كتاب تحت الإعداد بعنوان ( الجمال والعنف البنى التصويرية والطقس القرباني قراءة في الفكر والنقد العربي القديم ) .

[1] - ينظر حياة جاسم محمد ، وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي ( الرياض ، دار العلوم ط.الثانية 1406 هـ / 1986 م) وينظر دراسات بعض المستشرقين أيضًا مثل فان جلدر مقالة " الأنواع في تعارضها : النسيب والفخر" ترجمة خيري دومة ( القاهرة ، مجلة فصول , مجلد 14 عدد2  سنة 1995م ) ص 204-212 ، وينظر كذلك بلاشير ، تاريخ الأدب العربي ترجمة إبراهيم الكيلاني ( دمشق ، دار الفكر ، ط. الثانية 1404هـ /1984م ) ينظر مثلاً ص 412 وص 437 وص667.

[2] - ابن قتيبة ، الشعر والشعراء تحقيق أحمد محمد شاكر ( القاهرة ، دار المعارف ط. الثانية 1966م ) 1/ 74/75 وينظر ابن رشيق ، العمدة , تحقيق محمد قرقزان ( بيروت ، دار المعرفة ط. الأولى 1408هـ 1988م ) ج 2 /753 ، وينظر حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة ( بيروت ، دار الغرب الإسلامي ط. الثانية سنة 1981م ) ص 296 وص302 ص 336 وينظر ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ( بيروت , دار مكتبة الهلال , د ت ) ص 572-573 .

[3] -  ابن قتيبة ، الشعر والشعراء 1/74-75.

[4] -  ثمة توجيهات من النقاد القدامى للشاعر بألا يفتتح قصيدة الرثاء بالنسيب ؛ ينظر مثلاً ابن رشيق ، العمدة  ج 2/812 ,  وينظر حازم القرطاجني ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 351 ، وينظر بعض دراسات حديثة عن الرثاء مثل : دراسة مصطفى الشوري ، شعر الرثاء في العصر الجاهلي دراسة فنية ( بيـروت ، مكتبة لبنان ط. الأولى 1995م ) ، وينظر حسين جمعة ، قصيدة الرثاء جذور وأطوار ( دمشق ، دار  التميز ودار معد ط.الأولى 1998م)

[5] -  فان جلدر ، مقالة " الأنواع في تعارضها : النسيب والفخر " ص 205 .

[6] - لاحظ حازم القرطاجني التنويعات الفرعية تحت الغرض الشعري الواحد وسماها جهات الشعر , وقسمها إلى الجهات الأول والجهات الثواني . يقول :" وجهات الشعر هو ما توجه الأقاويل الشعرية لوصفه ومحاكاته مثل : الحبيب والمنزل والطيف في طريق النسيب " منهاج البلغاء وسراج الأدباء ص 77 وينظر كذلك ص 216 , وينظر عن تفصيلات ذلك عند حازم كتابي : نظرية المعنى عند حازم القرطاجني ( بيروت , المركز الثقافي العربي ط الأولى سنة 2002م ) ص 167إلى 199 . وينظر كذلك قول لابن خلدون مشابه لقول حازم  في مقدمة ابن خلدون ص 571 .

[7] -  لم يُشر إلى هذا المصطلح د.أحمد مطلوب في كتابه معجم النقد العربي القديم ( بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ط. الأولى 1989م ) , ولم يذكره كذلك في كتابه  معجم المصطلحات البلاغية والنقدية ( بغداد ، المجمع العلمي العراقي سنة 1978م) , كما لم يُشر إليه الدكتور محمود الربداوي في كتابه كشاف العبارات النقدية والأدبية في التراث العربي ( الرياض ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ط. الأولى 1420هـ 1999م ) ، ولم يُشر إليه الدكتور أحمد مطلوب في كتابه معجم مصطلحات النقد العربي القديم ( بيروت ، مكتبة لبنان ط. الأولى 2001م ) .

[8] -  علي بن سيده ، شرح المشكل من شعر المتنبي . تحقيق مصطفى السقا وحامد عبد الحميد ( القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976م) ص 192.

[9] -  ابن منظور ، لسان العرب ( بيروت ، دار لسان العرب د.ت ) مادة خصا .

[10] -  ينظر الأصمعي , كتاب فحولة الشعراء . تحقيق ش . توري . تقديم صلاح الدين المنجد ( بيروت , دار الكتاب الجديد سنة 1400 هـ/   1980م ) ص 10-12 , وينظر ابن سلام , طبقات فحول الشعراء . تحقيق محمود محمد شاكر ( القاهرة , دار المعارف[1394 هـ/1974 م]) 

[11] -  ينظر الأصمعي , كتاب فحولة الشعراء , ص 14 .

[12] -  ينظر ما لاحظه د. إحسان عباس حول مصطلح الفحولة في كتابه تاريخ النقد الأدبي عند العرب ( بيروت , دار الثقافة ط الثانية 1398هـ /1978م ) ص51- 53 وص81-83 . وينظر مادة الشاعر الفحل ص 260 من كتاب د. أحمد مطلوب , معجم مصطلحات النقد العربي القديم.  

[13] - ابن رشيق , العمدة ج1/406 .

[14] - أعد حاليًا دراسة مفصلة عن الجانب المصطلحي لهذه الكلمات ذات العلاقة بمصطلح التخلص .

[15] - لسان العرب ، مادة بتر .

[16] - لسان العرب مادة كسع .

[17] - لسان العرب مادة قضب , وينظر الزمخشري ، أساس البلاغة , تحقيق عبد الرحيم محمود ( بيروت ، دار المعرفة . د ت ) مادة قضب.

[18] - لسان العرب مادة قضب .

[19] - ينظر نص ابن قتيبة في الصفحة الأولى من هذا البحث .

[20] - لسان العرب مادة وثب .

[21] - لسان العرب مادة وتر .

[22] - أعد دراسة حاليًا حول هذه المسألة أبين فيها طبيعة هذا التماثل بين النسيب والتحميد ، و أكشف عن تجذر ذلك في علاقة المؤنث بالجانب الألوهي ، وكون النسيب وشعر الحب يحمل بعدًا دينيًا في الأصل وأثر ذلك على التنظير النقدي وواقع الشعر .

[23] -  ابن رشيق ، العمدة  ج 2/ 753 _ 754 .

[24] - ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ص 570-571 .

[25] -  ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ص 569 .

[26] -  ابن رشيق ، العمدة ج1 /448 .

[27] - ينظر الفصل الموسع الذي عقده يوسف بكار في كتابه بناء القصيدة في النقد العربي القديم ( بيروت ، دار الأندلس .ط. الثانية سنة 1403هـ / 1983م ) ص 339-361 ، وينظر كذلك محمود الربداوي ، كشاف العبارات النقدية والأدبية في التراث العربي ص 224-226.

[28] -  يبدو أن أبا سعيد سنان بن ثابت بن قرة ( ت331 هـ) أول من ألف رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر , ولكن الرسالة مفقودة , ينظر فاطمة الوهيبي ، نقد النثر في القرنين الرابع والخامس الهجريين ( الرياض ، دار العلوم ط. الأولى 1411هـ / 1991م) ص 82 ، أما أبو اسحق الصابيء ( ت384 هـ) فرسالته في" الفرق بين المترسل والشاعر" كانت , فيما يبدو , المصدر الذي استقى منه كثيرون من بعده فكرة وحدة البيت المفرد في الشعر وفكرة الوحدة والبناء المتصل الذي يميز المبنى النثري التي رأينا أثرها عند المرزوقي وابن رشيق و ابن خلدون . ينظر المصدر السابق ص 82-84  وينظر نص رسالة الصابيء بتحقيق د.محمد الهدلق ضمن كتاب : قراءة جديدة لتراثنا النقدي ( جدة , النادي الأدبي الثقافي , سنة 1410 هـ/1990 م ) المجلد الثاني ص  581 .

[29] -  ينظر فاطمة الوهيبي بحث بعنوان " في المشترك بين الشعر والمثل : نظرات في المدونة التراثية " ( مجلة أخبار التراث العربي , عدد 111 سنة 2008 م )

[30] -  لعل ابن خلدون حين تبنى فكرة وحدة البيت المفرد , وأشار إلى الأسلوب النثري القائم على الاتصال والتتابع كان يوسع عبارة ابن رشيق , ويؤسس لها على بعدي الاتصال والانفصال . ولكن ابن خلدون بذائقة تحرص على النقاء وعدم تداخل الأنواع قد غالى فأخرج كليًا وبصرامة ما خرج عن عمود الشعر العربي  من الشعر العربي ، أما ابن رشيق فيمكن أن يُفهم من كلامه أن الشعر الذي لا يقوم على وحدة البيت مثل شعر المتنبي شعر فيه بعد حكائي فحسب , وهو وإن لم يكن مستحبًا , فإنه لم يطرد من مملكة الشعر .

[31] - يقول ابن سلام : "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته ، وإنما قصدت القصائد وطُوّل الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف ." ينظر كتابه طبقات فحول الشعراء , شرح محمود محمد شاكر ( القاهرة ، مطبعة المدني [1394هـ / 1974م] ) ج1/ 26 .

[32] - عبد الفتاح كيليطو ، لسان آدم . ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ( الدار البيضاء ، دار توبقال ط. الأولى سنة 1995م ) والكتاب كله يعالج هذه المسألة خاصة في ص 28 وما بعدها .

[33] -لي حول علاقة الكتابة بمفهوم الخصاء ومسألة الأصل دراسة لاحقة أربطها ربطًا مباشرًا باجتهادات دريدا حول ما يقرره من أن " الدرجة القصوى للكتابة أو الإخصاء الأصلي يضع حدًا لأسطورة الأصل ." خاصة أن هذه المسألة ترتبط ارتباطاً مباشرًا بالاستهلالات والافتتاحيات والعناوين , وصلة هذا واضحة هنا بمسألة الافتتاح بالنسيب والسعي إلى بتره أو التنفير من ذلك .

[34] - سارة كوفمان وروجي لابورت ، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا . ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي ( الدار البيضاء ، أفريقيا الشرق . ط. الأولى 1991م ) ص 80 . وينظر كذلك ميجان الرويلي وسعد البازعي ، دليل الناقد العربي ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ط. الثالثة سمة 2002م ) مفهوم التشتيت ص 119 .