وعدت القارئ بقصة حول موقف الممدوح من منافسه الممدوح الآخر ، ومن الشعر الذي قيل فيه ، وموقفه منه بعد وفاته . وهي قصة أوردها ابن المعتز في طبقاته وهو يتحدث عن الشاعر مروان بن أبي حفصة وهو شاعر له مدائح ومراث في معن بن زائدة عدّها ابن المعتز حسنة عجيبة . وقال في أخبار مروان إنه دخل يومًا على جعفر بن يحيى البرمكي فوقف ينشده قصيدة في مدحه فاستوقفه وقال له : " ويحك أنشدني مرثيتك في معن :
وكان الناس كلهم لمعن |
|
إلى أن زار حفرته عيالا |
فأنشده إياها حتى فرغ من القصيدة وجعفر يُرسل دموعه فلما سكن ، قال : أأثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئًا ؟ قال : لا . قال جعفر : فلو كان معن حيًا ثم سمعها منك ، كم كان يثيبك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار. قال جعفر : لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك ، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت ، وزدنا نحن مثل ذلك ، فاقبض من الخازن ألفًا وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك . فقال مروان يذكر ذلك ويمدح جعفرًا وزادها في مرثيته لمعن :
نفحت مكارمًا عن قبر معن |
|
لنا ممّا تجود به سجالا |
فعجلت العطية يا ابن يحيى |
|
بتأدية ولم ترد المطالا |
فكافئ عن صدى معنٍ جوادٌ |
|
بأجود راحةٍ بذلت نوالا |
بنى لك خالد وأبوك يحيى |
|
بناء في المكارم لن ينالا |
كأن البرمكىَّ بكل مال |
|
تجود به يداه يُفيد مالا " (1) |
وهذا النص يشع بقوة من أكثر من زاوية ، فعلى غير ما هو متوقع هاهو جعفر يقاطع الشاعر على الرغم من أنه يلقي مديحًا فيه , ويطلب منه الاستماع إلى مرثية الشاعر في معن بن زائدة ، وهذا موقف نبيل ونادر ، وفوق هذا فالقصة تصف كيف كان جعفر يذرف دموعه وقد جاشت مشاعره حتى إنه لم يستطع التحدث بعد انتهاء الشاعر من إلقاء القصيدة حتى هدأ وسكن من هذا البكاء !
وهذا موقف كما يرى القارئ يُقص بجمالية لا تستنكر دموع الرجل في موقف يستنهض القيم والوفاء . وتستكمل القصة جماليات لم تخطر ببال أحد , وهو أن العطاء والتكسب كان مرتبطًا في الغالب الأعم بأن الممدوح نفسه يثيب الشاعر ، أما قصائد الرثاء فقلما تذكر كتب الأدب والتاريخ أن الشاعر الذي يرثي ينتظر العطاء لأنه يقول تفجعًا ووفاء ، ولكن جعفر البرمكي ينعطف بالموقف نيابة عن المرثي ، ويسأل سؤالاً مفاجئًا عن المبلغ الذي كان يتوقع الشاعر لو أن معنًا كان حيًا لأثابه عليه . وما إن يحدد الشاعر مبلغًا - وقد وقع في مصيدة السؤال - يفاجئه جعفر بأنه معنًا كان سيعطي أضعاف ما ذكر ، ويزيد جعفر براعة في موقفه النادر فيأمر بضعف المبلغ نيابة عن معن ثم يزيد عليه هو من عنده !
ليت لجعفر عينًا فترى نجاسات التناحر والتنافس بين الأقران والزملاء وأهازيج أبليس وشعره في التلاسن والمثالب حتى لو كان الخصم يعرف فضائل خصمه ، وليت لجعفر عينًا فترى ماذا يفعل اللاحق بالسابق والسابق بالسابق واللاحق باللاحق ؟!