الصفحة الرئيسية
 /  
ليت لجعفر عينًا فترى 2
 /  
رجوع

ليت لجعفر عينًا فترى 2


وعدت القارئ بقصة حول موقف الممدوح من منافسه الممدوح الآخر ، ومن الشعر الذي قيل فيه ، وموقفه منه بعد وفاته . وهي قصة أوردها ابن المعتز في طبقاته وهو يتحدث عن الشاعر مروان بن أبي حفصة وهو شاعر له مدائح ومراث في معن بن زائدة عدّها ابن المعتز حسنة عجيبة . وقال في أخبار مروان إنه دخل يومًا على جعفر بن يحيى البرمكي فوقف ينشده قصيدة في مدحه فاستوقفه وقال له : " ويحك أنشدني مرثيتك في معن :

 

وكان الناس كلهم لمعن
 

 

 

إلى أن زار حفرته عيالا
 

فأنشده إياها حتى فرغ من القصيدة وجعفر يُرسل دموعه فلما سكن ، قال : أأثابك أحد من ولده وأهله على هذه شيئًا ؟ قال : لا . قال جعفر : فلو كان معن حيًا ثم  سمعها منك ، كم كان يثيبك عليها ؟ قال : أربعمائة دينار. قال جعفر : لكني أظن أنه كان لا يرضى لك بذاك ، وقد أمرنا لك عن معن بضعف ما قلت ، وزدنا نحن مثل ذلك ، فاقبض من الخازن ألفًا وستمائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك . فقال مروان يذكر ذلك ويمدح جعفرًا وزادها في مرثيته لمعن :

 

نفحت مكارمًا عن قبر معن  

 

 

لنا ممّا تجود به سجالا  

 

فعجلت العطية يا ابن يحيى  

 

 

بتأدية ولم ترد المطالا  

 

فكافئ عن صدى معنٍ جوادٌ  

 

 

بأجود راحةٍ بذلت نوالا  

 

بنى لك خالد وأبوك  يحيى  

 

 

بناء في المكارم لن ينالا  

 

كأن البرمكىَّ بكل مال  

 

 

تجود به يداه يُفيد مالا " (1)
 

 

 

 

وهذا النص يشع بقوة من أكثر من زاوية ، فعلى غير ما هو متوقع هاهو جعفر يقاطع الشاعر على الرغم من أنه يلقي مديحًا فيه , ويطلب منه الاستماع إلى مرثية الشاعر في معن بن زائدة ، وهذا موقف نبيل ونادر ، وفوق هذا فالقصة تصف كيف كان جعفر يذرف دموعه وقد جاشت مشاعره حتى إنه لم يستطع التحدث بعد انتهاء الشاعر من إلقاء القصيدة حتى هدأ وسكن من هذا البكاء !

      وهذا موقف كما يرى القارئ يُقص بجمالية لا تستنكر دموع الرجل في موقف يستنهض القيم والوفاء . وتستكمل القصة جماليات لم تخطر ببال أحد , وهو أن العطاء والتكسب كان مرتبطًا في الغالب الأعم بأن الممدوح نفسه يثيب الشاعر ، أما قصائد الرثاء فقلما تذكر كتب الأدب والتاريخ أن الشاعر الذي يرثي ينتظر العطاء لأنه يقول تفجعًا ووفاء ، ولكن جعفر البرمكي ينعطف بالموقف نيابة عن المرثي ، ويسأل سؤالاً  مفاجئًا عن المبلغ الذي كان يتوقع الشاعر لو أن معنًا كان حيًا لأثابه عليه . وما إن يحدد الشاعر مبلغًا - وقد وقع في مصيدة السؤال - يفاجئه جعفر بأنه معنًا كان سيعطي أضعاف ما ذكر ، ويزيد جعفر براعة في موقفه النادر فيأمر بضعف المبلغ نيابة عن معن ثم يزيد عليه هو من عنده !

          ليت لجعفر عينًا فترى نجاسات التناحر والتنافس بين الأقران والزملاء وأهازيج أبليس وشعره في التلاسن والمثالب حتى لو كان الخصم يعرف فضائل خصمه ، وليت لجعفر عينًا فترى ماذا يفعل اللاحق بالسابق والسابق بالسابق واللاحق باللاحق ؟!