حينما يتتبع الباحث مادة بحثية معينة يتوجب عليه تصفح عدد كبير من المظان للبحث عن الضالة . ويقرأ الكثير مما لا علاقة مباشرة له بالموضوع , ولكن ما تعطيك إياه هذه القراءات يتحول أحيانًا إلى كنوز بحثية تلهمك موضوعات لم تكن تخطر على البال , ولم تكن موجودة أصلاً على خارطتك البحثية . وقد حدث ذلك لي مرات كثيرة كان آخرها تسكعي لمسافة أطول مما احتجته في تصفح مادة لغوية في لسان العرب حيث أسلمني هذا التسكع والصدفة القرائية إلى غواية بحث طويل مرهق وممتع في آن أسفر لاحقًا عن كتابي الظل .
ما الذي يدعوني اليوم لأحدث القارئ بهذا ؟ إن القارئ المنقب والباحث المدقق يعرف بالضبط ما أعنيه ، ويدرك عمق الفرح بمثل هذه اللقى الجميلة التي تعرض صدفة في الطريق . والمدونة التراثية مليئة بمثل هذه العطايا ، بعضها جميل ومشرق وبعضها وإن كان يحمل صورًا وقيمًا مظلمة إلا أنها أحيانًا على مستوى البحث الأكاديمي تمثل فرصة للإضاءة وتقديم الجديد الذي يعيد النظر أو يدعو إلى إعادة النظر في المستقر من التأويلات والأحكام المقررة والنظرات الثابتة في تقديم التراث والحضارة العربية .
لو سألت القارئ : ما هي العلاقة بين الأقران ؟ في الغالب المعهود والمستند إلى معايشة الواقع والوقائع سيقول إن التنافس يشتد بينهم ، وإن الوقائع من معايشة الواقع تشير أن التنافس قلما يكون شريفًا ، وتاريخنا الأدبي يقص قصصًا كثيرة عن الشعراء وانخراطهم في المدائح للتكسب , لكن هذا التاريخ قلما يتوقف عند تنافس الخلفاء والممدوحين في استقطاب الشعراء وغيرتهم ( أي الممدوحين) من بعضهم ، أما النادر الذي لا تتوقف عنده المدونة ولا يتوقف عنده الدارسون أيضًا فهو موقف الممدوحين لا من القصائد التي مُدحوا بها ، وإنما موقفهم من القصائد التي مُدح بها غيرهم وما تعكسه هذه المواقف من مشاعر تجاه الممدوح ووجهة نظره في الشعر .
أما ما لا تكاد تهتم به المدونة التراثية فهو موقف الخليفة أو الممدوح من الممدوح الآخر بعد أن يموت ، إنها منطقة شبه مظلمة . فهل يلاحق الممدوح منافسه حتى بعد مماته ، وإن حدث فما هو موقفه يا ترى ؟ أعد القارئ بقصة مؤثرة غير متوقعة أقصها عليه في الحلقة المقبلة إن شاء الله ، وهي قصة غنية بقيم جميلة نادرة أطلت الوقوف عندها حين قرأتها وأردت أن أشرك القارئ معي في جمالياتها المتعددة .