دراسة أنجزت سنة 1411هـ /1991م و نشرت في مجلة (الأدبية) الصادرة عن نادي الرياض الأدبي في العدد 24 ، المجلد الثالث _ السنة الثالثة . رجب شعبان 1415هـ _ يناير 1995م
إذا كانت مقولة " العنوان مفتاح العمل الأدبي " صحيحة في بعض الأحيان فهي هنا ، مع هذا العمل مطواعة تمامًا : فالعنوان هنا مدخل مهم يضيء تلافيف هذا العمل الروائي _ كما يسميه اللعبي _ الذي هو مجملاً تجاعيد كتابية يعسر الفكاك من فوضاها الجمالية ، وتجاوزها للأعراف الروائية ، تجاعيد تشعرك بقوة مخيلة تعمل بتوتر محموم .
دراسة بعنوان ( تجاعيد الصحو و انبلاج القارة : قراءة في رواية تجاعيد الأسد لعبد اللطيف اللعبي ) نشرت في مجلة الأدبية عدد رجب و شعبان من سنة 1415 هـ.
إن التجاعيد مع أنها مظهر ارتخاء إلا أنها ضريبة توتر النفس وانشدادها مع ضغوط الحياة . وهذه واحدة من مفارقات اللعبي الكثيرة ، فمع أنها مظهر انكسار وارتخاء خارجي إلا أنها تحيل إلى داخل مشدود متوتر . ولقد قال ذات مرة قبل كتابة هذه الرواية في إحدى يوميات قلعة المنفى : "يستحيل النزول من الحبل المشدود .عند نموت سيكون لدينا ما يكفي من الوقت لأن نستريح! "([i])
وهذا وصف ملائم مناسب تمامًا لحالة البطل في هذه الرواية . وهذا معنى يمكن الاطمئنان إليه خاصة إذا ما لوحظ أن كلمة تجاعيد في العنوان تجاور كلمة الأسد . وهو ليس مجرد تجاور لفظي ، بل هو تجاور إضافة وتخصيص . ومن هنا تنقلب مجاورة الأضداد إلى علاقة منسجمة ؛ حيث التجاعيد رمز الارتخاء والضعف تندغم في قوة الأسد وجبروته . الأسد الذي تزيده التجاعيد هيبة وجلالاً بقدر ما يمنحها هو شباب القوة التي طالما ارتبطت بالأسد ، سيد السباع مهما هرم !!
ومن هنا فالرواية بدءًا من العنوان ومرورًا بما تضج به تأتي منسجمة مع ما عُرف عن اللعبي في معظم إنتاجه من اختيار طريق المجابهة . وهي هنا مجابهة ومواجهة للذات وتعرية تناقضاتها وهشاشتها وجدل اشتباكها مع الوجود , في الوقت الذي هي فيه مجابهة مع اللغة وتجاعيد الكلمات على طروس الكتابة ومعاناة انقسام وعي الكتابة على الذات والموضوع .
والرواية تحيل كغيرها من أعماله الأدبية إلى حياته المناضلة ، فتبدو وكأنها سيرة ذاتية ، وتقترب إلى حدّ كبير مما قدمه في "يوميات قلعة المنفى" ولا سيما أنه كثيرًا ما يعمد إلى طريقة اليوميات والرسائل والاعتراف في هذه الرواية .
المحاكمة ورهان الحقيقة :
تجاعيد الأسد هي التلافيف العميقة لنفس البطل . هي تجاعيد الصحو في رحلة استبطان الذات واكتشافها ومحاكمتها أيضًا . وأظن أن فكرة بناء الرواية على التأمل والرحلة الداخلية قد نبتت أثناء السجن الطويل . جاء في يوميات قلعة المنفى التي كتبها أثناء سجنه : " آه ، كم هي طويلة مسيرة المرء قبل أن يصل إلى الإنسانية الحقيقية . لكن كم هي مثيرة القارة الأكثر عجبًا ، الأكثر غنى تلك التي لا ينفك المرء فيها عن الانتقال من افتتان إلى افتتان ، تلك القارة هي أيضًا الإنسان ، بعد مايكون قد استأصل من أعماقه جميع سمومه ، آنذاك يصبح الحب ، الذكاء ، الحساسية ، العقل رافعات ضخمة للتغيير للاكتشاف وللخلق .... وأجمل شيء في كل هذا ، اللحظة الأكثر إثارة في هذه الرحلة هي لحظة الصحو ، انبلاج هذه القارة في داخلنا . " ([ii])
ومن هنا فهذه الرواية تأتي لتمثل مرحلة محاكمة لفترة زمنية معزولة في السجن ، مرحلة تصفية حسابات مع نفسه وأسرته وزمنه الشخصي والحضاري . وقد نص على هذا صراحة في تضاعيف الرواية ([iii]).
ومن يعرف القليل عن حياة اللعبي لا يصعب عليه ملاحظة أن هذه الرواية ليست إلا شريحة من حياته الخاصة ([iv]). وأنها تمثل هذه المرحلة القاسية من الوقوف أمام تشظي الذات مع عنف آلة السجن . كما لا يصعب ملاحظة أنها محاولة لتصحيح صورة ما عن اللعبي من خلال تلك المحاكمات التي تنصبها الأصوات في الرواية ، أصوات الأم والأب والزوجة والابن والشقيق التوأم ، تلك الأصوات التي تتزاحم وتتدافع كأنما لتثأر من صمت وقمع طويلين .
ومع ذلك فمحاكمة الذات وتعرية تشظيها محكمة _ هي في النهاية _ ممهدة لمحاكمة العالم . يقول : "رهان الحقيقة حول الذات هذه العلاقة مع النفس التي يكون فيها المرء قاضيًا ومحققًا ومدافعًا . وإذا لم تجر وقائع هذه المحاكمة كما ينبغي ، بكل نزاهة وصراحة أخلاقية ، كيف يمكن لصاحبها أن يزعم محاكمة العالم . " ([v])
الأصوات ، الدم النازف من المرآة :
إن اعتماده طريقة الرحلة في الحياة الداخلية لنفس البطل مع هاجس المحاكمة أدّاه بالتالي إلى اختيار هذا الشكل القائم على الأصوات المتعددة إنها أصوات متعددة نعم ، ولكنها متشظية من صوت الكاتب ذاته ، حيث يطلقها من سجونها لتتكلم . ولهذا فإن أول ما يبدأ به الرواية قوله : "وجع الكتابة , بالكلمات التي تجرح الفم . مالم أعرف أو مالم أقدر على قوله أبدًا ، أقراني الذين خنقتهم دون أن أعرف علة ذلك . " ([vi]) وهذا يذّكر أيضًا بما قاله في كتاب "حرقة الأسئلة " ملحًا على أهمية تحرير النفس من سجونها الداخلية ([vii]).
وتلك الأصوات المتعدد التي تطفو تارة وتغرق أخرى , وتتردد , وتتعالى , وتتناسخ ما هي إلا أصوات التناقضات وأصوات التحولات ، أصوات التداخل والالتباس . يقول في إحدى محاوراته في مطلع الرواية : " وعملي يقوم من بين ما يقوم عليه ، على إتاحة الفرصة للأصوات المتعددة التي تسكنني ، أتركها ترفع عقيرتها بالصراخ ، وتتشكل كما تشاء , وأكتفي بإبعاد المرايا اللاحمة والأسوار والأبواب الخادعة من طريقها . " ([1]) ويقول عند مشارف نهاية الرواية :
" بدأت بالكاد أتعرف على أصواتي ، وأحصي تحولاتي ."([viii]) وكان ذلك الاستبطان الداخلي العنيف ومحاكمة الأصوات أشبه بالوقوف أمام مرآة كاشفة لنزف مستمر . ولقد هجس اللعبي أثناء الرواية ذاتها بتسمية روايته فعلاً بالدم النازف من المرآة . ولقد كرر ذلك مرتين في هذه الرواية ([ix]).
الالتباس :
وتقنية الالتباس هذه تتضح في لعبة البناء الروائي كله ؛ فثمة تداخل والتباس في الأصوات والأحداث والأمكنة . فمنذ البدء يصرح بأن كل كلام مستبطن بآخر ، وكل فعل يضمر فعلاً آخر. يقول في أثناء الرواية : "من يجرؤ على التفكير في أن هذا البلد يخفي بلدًا آخر . " ([x]) و " وما الذي يخصني إذن في لعبة الكتابات المتراكبة هذه . " ([xi]) كما يتحدث عن ذلك " الأفق الذي يخفي أفقًا أخر. " ([xii]) وخلال أحداث الرواية كثيرًا ما تتداخل الرباط مع باريس ، وغالبًا ما تنهض باريس من خلف الرباط أو الرباط خلف باريس , حتى يختلط الأمر على القارئ كما هو على البطل حتى "لم يعد بالإمكان تمييز سوى تسلسل من الأشكال الملتبسة . "([xiii]) بل إن الالتباس يتحول عنده إلى لذة ترتشف " كنت أتلذذ بالالتباس وأرتشفه على مهل قبل أن يجرفني النوم . " ([xiv])
الهنا والهناك واغتراب المثقف :
ومع أنه يمكن تفسير تشظي الذات وتعدد الأصوات لديه وتناقضاتها وتحولاتها وبناء الرواية على التردد المعذب والالتباس الدائم على أنها فوضى اللعبي الجمالية تلك التي ذكرها في روايته كجزء من حلم يتمناه ([xv]) إلا أن هذا الالتباس أيضًا يعكس اختلاط الأمر على البطل وتردده ومعاناته أيضًا في الهجرة أو البقاء ، وهو الموضوع الذي نتبين فيما بعد أنه شغل البطل الشاغل . إنه التمزق الذي لا يجد له حلاً ليستريح إلا في التلاحم ، تلاحم الأصوات في الداخل - ولا سيما بصوت شق الشاعر فيه ([xvi]) _ ولا يجد المعادلة إلا في التلاحم بين الهنا والهناك ، إذ يحل التردد والعذاب بفكرة مجرد الابتعاد لا الرحلة ، مثلما يحل مسألة التباس الأمكنة بتلاحم أرضي يعيد للأرض كرويتها . لذلك يختم الرواية بقوله : "يحدث أن البلد لم يعد له اسم لأن كل الأسماء تناسبه بامتياز ." ([xvii]) يقول ذلك ربما لأنه مؤمن بمسألة التجوال كمعين لهمّ المثقف , قال في يوميات قلعة المنفى : " عندما أفكر في كل الأماكن والمدن التي يمكن أن نسعد فيها , ونكتشف الجمال باستمرار فإنني أنزع للاعتقاد بأن أفضل موهبة للإنسان أن يكون رحالة _ فتصبح بذلك جذوره الحقيقية هي مايربطه بأماكن انبهاره ، بعمله الخلاق ، وبأسباب تفتح شخصيته . " ([xviii])
والوقوف عند هذه النقطة بالذات يحيل مباشرة إلى الهم الذي عالج بعض جوانبه في الرواية ؛ وهو هجرة المثقف واغترابه في المنفى . وقد دافع عن فكرة الاغتراب في إحدى المقابلات معه فقال : " المنفى آلة قد تحطم الإنسان ، وقد يكون العكس حالة لاستنفار داخلي ويكون مدرسة وطاقة كبيرة جدًا لإعادة الالتقاء بالوطن وبكل ما هو أساس بالنسبة للمثقف الحر . " ([xix])
إن التباس الأصوات والأمكنة ، والالتباس بين الرحلة الباطنية والرحلة الخارجية ومحاولة إيجاد الحل بالتلاحم بين الأصوات والتلاحم بين الهنا والهناك ، بالتوفيق بين معنى الابتعاد ومعنى الهجرة والمنفى _ ما هو إلا جزء من مقولة التلاحم الكوني التي تتردد أنفاسها في معظم كتابات اللعبي ([xx])، تلك التي تجعله _ كما يقول _ ما يزال " الشاعر المدافع بشراسة عن آخر معاقل اليوطوبيا . " ([xxi]) إنها جزء من بحثه الدائم عن تلك العين الثالثة " عين القلب التي ترى ما وراء الظواهر . " ([xxii]) إنها باختصار تمكين لهذه العين في هذه الرحلة من فك الالتباسات في الداخل والخارج بحثًا عن لحظات التجلي أو تأمل في لحظة الصحو . إنها رحلة في تجاعيد قارة الصحو . تجاعيد قارة الإنسان وتلافيفه الداخلية . ألم يقل هو نفسه في يوميات قلعة المنفى :"الإنسان هو الحيوان الوحيد المريض بنفسه" ([xxiii]) في الوقت الذي قال فيه عنه أيضًا : " وأجمل شيء في كل هذا ، اللحظة الأكثر إثارة في هذه الرحلة (يعني رحلة الإنسان داخل نفسه ) هي لحظة الصحو وانبلاج هذه القارة في داخلنا ." ([xxiv]) إنها احتفاء من نوع آخر بالإنسان وقدراته في هذا الوجود حيث : "فرصته الوحيدة للوجود هي أن يشرع داخله تلك الباب المفضية إلى سماء أخرى ، باطنية تمامًا ... لا يتم بلوغ تلك السماء عنوة أو بمأثرة تقنية . وحده اختيار خطر يُمكّن من فتح الباب , اختيار لامندوحة عنه تمتزج فيه الحرية بالضرورية . " ([xxv])
[1] - تجاعيد الأسد ، ص 42
[i] - عبد اللطيف اللعبي ، يوميات قلعة المنفى ( المغرب , الدار البيضاء , المركز الثقافي العربي سنة 1985م ) ص 283 .
[ii] - المصدر السابق ، ص 116، 117 .
[iii] - عبد اللطيف اللعبي , تجاعيد الأسد ( المغرب الدار البيضاء , دار توبقال , ط الأولى سنة 1989م ) ص 112-121
[iv] - من أبرز الإشارات إلى ذلك في هذه الرواية الإحالة إلى روايته مجنون الأمل في ص 72 ، والإشارة إلى تجربة سجنه ، والإشارة إلى نصرانية الزوجة جوسلين الفرنسية . وقد نص نصًا صريحًا على أن هذه الرواية سيرة في ص 17 .
[v] - تجاعيد الأسد ص 76 .
[vi] - المصدر السابق ، ص 7 .
[vii] - عبد اللطيف اللعبي ، حرقة الأسئلة . حوار جاك اليساندرا ترجمة علي تيزلكاد ( المغرب , الدار البيضاء , دار توبقال , ط الأولى سنة 1986م ) ص 16 .
[viii] - المصدر السابق ، ص47 .
9 _ المصدر السابق ص 80 .
_المصدر السابق ، ص 78-112 .
[x] - المصدر السابق ، ص 53 .
[xi] - المصدر السابق ، ص 37 .
[xii] - المصدر السابق ، ص 56 .
[xiii] - المصدر السابق ، ص 83 .
[xiv] - المصدر السابق ، ص 84 .
[xv] - المصدر السابق ، ص 83 .
[xvi] - المصدر السابق ، ص 80 .
[xvii] - المصدر السابق ، ص 123 .
[xviii] - يوميات قلعة المنفى ، ص 92 .
[xix] - مجلة كلمات . العددان 10-11 سنة 1989م ص 240 .
[xx] - إحدى نتائج بحث لي غير منشور بعنوان : " نصف القبة الزرقاء _ قراءة في أدب عبد اللطيف اللعبي " سنة 1411هـ .
[xxi] - تجاعيد الأسد ، ص 111 .
[xxii] - المصدر السابق ، ص 114 .
[xxiii] - يوميات قلعة المنفى ، ص 90 .
[xxiv] - المصدر السابق ، ص 117 .
[xxv] - المصدر السابق ، ص 15 .